في كتابه الصادر أخيرا عن «دار الفرجاني» تحت عنوان «حويتة وخميسة وقرين.. الشخصية الليبية»، يدشن عمر الكدي لمشروع وطني ليبي، لفهم الذات والتاريخ والحاضر من أجل «دولة حديثة» تتأسس على الهوية الحقيقية وتحولاتها، تطورها وانتكاساتها، وعوامل وأسباب ذلك التطور وتلك الانتكاسات، تلك العوامل التاريخية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي شكلت هذه الشخصية.
فهم الذات يأتي وفق الكدي في هذا الكتاب بعنوان ظهر في ليبيا في نهايات الستينيات من القرن العشرين، أعني «الشخصية الليبية» الذي طرح في تلك الفترة كمحاولة لترسيخ «الكيان» الوطني وتأسيس الدولة الحديثة، واعتبر هذا العنوان أفضل وأشمل مصطلح أو تعريف لإنسان هذا الكيان، فهو يشمل فهم الإنسان عبر الجغرافيا والاقتصاد والثقافة والتاريخ والجدل بينهم.
عمر الكدي في هذا الكتاب يبدأ في مشروع رصد وتقديم عوامل تكوين هذه الشخصية «الملخصة للهوية» وعوامل نموها عبر التاريخ، هذا المشروع يتطلب، أو بالأحرى يفرض، على الكدي الخوض في التاريخ الاجتماعي والثقافي منذ ما قبل التاريخ وحتى الآن، مما يجعل «التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا» تتداخل في رصده هذا لترسم صورة تشريحية لهذه الشخصية، «فما من أمة نهضت من كبوتها وسباتها، إلا وعادت إلى جذورها» كما يقول الكدي في مستهل كتابه.
لقد أغفل البحاث الليبيون في مختلف هذه التخصصات تاريخ الشخصية الليبية وتحولاتها التاريخية وعوامل تلك التحولات، وحتى بعض الدراسات خاصة في التاريخ وعلم الاجتماع لم تدرس تلك العوامل التي صنعت هذه الشخصية على هذه الصورة.
كل هذا أفشل غالبية المحاولات لبناء سردية متماسكة وشاملة للكيان الليبي والشخصية الليبية، لتظل السرديات الصغيرة والهشة تكتب تاريخنا وترسم شخصيتنا وتعالج حاضرنا وترسم خارطة تخبطنا وتوهاننا الوطني.
عبر هذا المشروع سيكون بإمكاننا أن ننطلق في عمل وطني شامل لفهم ذاتنا وفهم قدراتنا وعيوبنا، مما سيمكننا من رسم مستقبلنا، لندخل «حداثة» لها جذورها في تراثنا واقتصادنا وتضاريس أرضنا. إن الاقتصاد والسياسة والفنون والآداب والتاريخ، الفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ والأنثروبولوجيا والإثنوغرافيا، تخصصات يجب أن تتشابك وتتعاضد لإنجاز هذا المشروع المعرفي، إننا بحاجة ماسة للتكامل «الفكري» مع السياسي والمخطط وواضع الاستراتيجيات، لانطلاق مشروع تحديث وطني، يخرج بنا من نفقنا التاريخي المظلم إلى آفاق النهضة والتقدم.
الشخصية الليبية، حسب عمر الكدي، تنوعت وكان العامل الاقتصادي ونمط الإنتاج أحد أهم تأسيس ونمو تلك الشخصية وأطيافها المتنوعة، فحسب تلك الأنماط يقسم الكدي الشخصية الليبية إلى التاجر والقرصان والريفي الفلاح والبدوي الراعي متتبعا تاريخها وتحولاتها الاجتماعية والثقافية والسياسية، وعلى الرغم من التحول في تلك الأنماط الاقتصادية فإن أنماط الشخصية بقيت وإن تحولت بعض ملامحها، لقد اختفى القرصان مثلا ولكن تاجر المدينة تحول إلى كومبرادور تابع منذ الاستعمار الإيطالي، وتحول تجار القوافل إلى مهربين، ذلك التحول لا يعبر عن تحول جذري وحقيقي لتلك الشخصيات، بل نقلها إلى مرحلة وملامح الصراع على غنائم الاقتصاد الريعي، هذا هو الصراع الذي حكم الشخصية الليبية حتى يومنا هذا.
السوق والبئر يرى الكدي أنهما كانا أهم عوامل رسم وتشكيل صورة المجتمع الليبي والشخصية الليبية، ففي السوق تشكلت أشكال الدولة والحكم والقوانين المدنية أما على البئر فيغيب القانون وتحضر القوة والعرف.
على الرغم من هذين النمطين «السوق والبئر» فإن الكدي لا يرى انقسام الشخصية الليبية كما التونسية مثلا إلى حضري وبدوي، بل يرى أنها تنقسم إلى خمسة هي شخصية المدينة الساحلية، ثم شخصية الريف الزراعي المروي ثم شخصية الريف الزراعي البعلي والرعوي وأخيرا شخصية الواحات.
تلك الأنماط الخمسة كما يرى الكدي شكلت ملامح الشخصية الليبية، وشكلت ثقافتها التي ما زالت تؤثر في تحولات ليبيا، في تشظيها ووحدتها، طموحاتها وانكساراتها.
كتاب الكدي بأيقوناته الليبية «حويتة وخميسة وقرين» يأتي تعبيرا ومحاولة جادة لفهم الذات وما تعانيه من تشظ وانقسام، من أجل الوحدة والتحديث والتنوع في الوقت نفسه.