الطيوب | حاوره : مهنَّد سليمان
الكثير من الأحقاب والفترات الزمنية من تاريخ ليبيا لازالت طي التعتيم أو في أفضل الأحوال رابضة في منطقة الظل لا أحد يعرف عن ملابساتها شيئا، وإن توصل أحد ما إلى خيوط المعرفة بها وجد المصادر أمامه نزيرة ووقف أمام صورة ناقصة الأبعاد، وربما أبرز إشكال يواجه الوعي الجمعي المعاصر لليبيين هو الفخ الذي أوقع التاريخ الليبي في مأزق حرج فعدم وجود جذور لدولة مستقلة لليبيا جعل التاريخ الليبي في مهب الضياع والجهل خاصة عندما أصبح يُؤرَخُ للتاريخ بدءا من عام 1911م أي منذ أن استعمرت مملكة إيطاليا البلاد وأنزلت جنودها على السواحل الليبية أما عما قبل هذا التاريخ فلم يُولي له أحد سيما المؤرخين العناية والاهتمام المطلوبين مما أفرز فصاما خطيرا لوعي أجيال كاملة شكلته ملامح القرن العشرين ساعد في ذلك أيضا تداخل عوامل سياسية حاولت القطع حتى مع حساسية مرحلية معاصرة في التاريخ السياسي والاجتماعي الليبي ما قبل عام 1969م لينتعش مجددا حرج الوعي في علاقته مع التاريخ، وهذا الإشكال أنتج خللا ملحوظا في فهم سويّ وأمين للتاريخ دفع لانسداد آفاق المستقبل. بيد أنه في المقابل بدت هناك محاولات مبحثية لا تخلو من الجِدة والرصانة والالتزام تبذلها بعض الجهود في سبيل تقديم إضاءات هامة تتماس مع صنوف تاريخنا الليبي وآثاره وتأثيراته سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، وعبر هذه البسطة نستضيف الباحث الليبي الدكتور “رمضان محمد الأحمر” ليُحدّثنا باستفاضة عن رؤيته حول كتابه الموسوعي الهام (طرابلس الغرب وبرقة خلال العصر الفاطمي) الصادر عن منشورات دار الفرجاني للنشر والتوزيع لعام 2023م حيث كرّس الدكتور رمضان جهده لدراسة التاريخ الليبي والبحث عن قضاياه ونفض الغبار عن حقبه الغامضة.
كيف اهتديت لفكرة أطروحتك حول موضوع تاريخ ليبيا خلال العهد الفاطمي؟
في الحقيقة كانت فكرة هذا الموضوع ومضة أو خاطرة في الذهن جاءت بعد استلامي لأول عملٍ علميٍّ منشور باسمي سنة 2012م، وهو في الأصل كان رسالتي للماجستير في التاريخ الإسلامي، قبل أن أُحَوِّلها إلى كتاب. وقد كانت عن: “الحياة الاجتماعية في مصر في عصر الدولة الفاطمية”. فبالرغم من فرحتي وقتها بصدور الكتاب -وكان في حلة رائعة- إلا أنه قد صاحب شعور الفرحة وقتها شعور آخر بعدم الراحة وتأنيب الضمير، لأن دراستي هذه التي تحوَّلَت إلى كتاب أنيق لم تكن مُوَجَّهة إلى تاريخ ليبيا، بلدي ومَوطني ومَسقط رأسي، وهي الأَوْلَى بدراسة تاريخها الإسلامي، ولو حَبَّذا من أبناء وطنها، ولا سيَّما إذا وضعنا في الاعتبار أنَّ مِصرَ كانت -ولا زالت- تزخر بالبُحَّاث والكُتَّاب والعُلماء، الذين لم يتركوا حقبة من حقبها التاريخية إلا وكتبوا عنها وكشفوا عن خَفاياها، فهم في غِنًى عَمَّن يَجودُ عليهم بدراسة تاريخ بلادهم وإن أفلح في ذلك. أضِف إلى ذلك الحاجة الماسَّة للمكتبة التاريخية الليبية لمثل نوعية هذه الدراسات العلمية، التي تبحث في تاريخ ليبيا خلال عصورها الوسطى والإسلامية، الذي يُعاني من الغُموض في بعض حُقبه وعُصوره التاريخية، بما فيه العصر الفاطمي موضوع كتابي هذا، وذلك في محاولات لِسَدِّ الفراغ ومَلءِ النَّقص وترميم العجز إن أمكن.لذلك، من يومها ثَبُتَت النِّيَّة لتحقيق الأُمنية في البحث عن تاريخ ليبيا والكشف عن مجرياته خلال الحقبة الفاطمية، وبالفعل جعلته موضوعي لدراسة الدكتوراة، والحمد لله الذي وفقني وأنجزتها.
هل شح المكتبة الليبية جعلك تتصدى في مبحثك (كتابك) لهذه الحقبة؟
بالطبع، كان هذا من أقوى الدوافع التي جعلتني أتصدى لهذا الموضوع والبحث فيه، فالحقبة الفاطمية في ليبيا وغيرها من حقب التاريخ الإسلامي لم تنل حقها في البحث والكتابة مقارنة بالعصور التاريخية الأخرى، كالتاريخ القديم والتاريخ الحديث والمعاصر. وكنت متفاجئاً بعدم دراية الكثيرين -وبعضهم من أهل التخصص- بأن ليبيا كانت في يوم من الأيام ترزخ تحت الحكم الشيعي الفاطمي، فكان ذلك مما شحذ همتي أكثر وأكثر لطرق هذا الموضوع وفتح أبوابه، وأرجو أن أكون قد نجحت في ذلك، مما يُلقي الضوء على حقبة من الحقب التي لم تكن واضحة في التاريخ الليبي.
لماذا برأيك تشهد فترات ما قبل القرن العشرين نوعا من التعتيم؟
حسب استقرائي أن أكثر فترات التاريخ الليبي التي بها تشويش وتحتاج إلى إيضاح هي الفترة التي تلت الفتح الإسلامي واستمرت إلى مجيء العثمانيين إلى ليبيا، أي من القرن السابع الميلادي إلى القرن الخامس عشر الميلادي. ففي تلك القرون لم تقم في ليبيا (طرابلس وبرقة وفزان) دولة مُوَحّدة ذات ثقلٍ سياسي مثل الدول المستقلة التي قامت في مصر أو تلك التي قامت في إفريقية (تونس). فَفِي معظم فترات التاريخ الإسلامي كانت برقة تابعة لمصر من الناحية الإدارية، كما كانت طرابلس تابعة لولاية إفريقية وللدول التي تعاقبت في حكمها، لذلك لم ينل تاريخ الأقاليم الليبية نصيباً كبيراً من اهتمام المؤرخين المسلمين، الذين كانوا يُرَكّزون اهتمامهم -كما هو معروف- على الأحوال السّياسية للدول والإمارات وعلى ما يجري من أحداث في عواصمها، أو في قُصُور الخلفاء والسّلاطين والأمراء، وهذا ما افتقدته ليبيا في تلك القرون مما أثر سلباً على التأريخ لها.
هل نقص المصادر ساهم في بقاء جزء كبير من تاريخنا مغموراً ؟
بالتأكيد، فلا تاريخ من غير شواهد تدل عليه أو مصادر ووثائق تتحدث عنه، فالتاريخ الحقيقي يحتاج إلى استدلالات وتأكيدات يُستند عليها عند الكشف عن مجريات الأحداث التاريخية وسردها، وإنَّ غياب المصادر والشواهد في الروايات والسرديات التاريخية يجعلها تأخذ منحنى الخرافات والأساطير الشعبية التي تمتلئ بها كتب التراث والموروث الشعبي التي لا تخلو منها أمة مهما كانت درجة تحضرها في وقتنا الحالي.
ثمة من يقول بأن غياب المركزية التاريخية أثر سلباً على معرفة التاريخ الليبي كيف تقيم ذلك ؟
فيما يخص التاريخ الإسلامي لليبيا كما سبق وأسلفت أن أكثر شيء أثر على عملية التوثيق والتدوين له هو عدم قيام دولة مستقلة على الأرض التي تمثل جغرافية ليبيا اليوم، وهذا ما أثر سلباً على اهتمام المؤرخين الذين يركزون عادة على التأريخ لأماكن تواجد الدول وحواضرها وعلى ما يجري في قُصُور الخلفاء والسّلاطين والأمراء… الخ. لذلك نجد المادة المتعلقة بتاريخ ليبيا مُبَعْثَرة ما بين المصادر التي تتحدث عن التاريخ الإسلامي بصفة عامة، وأيضاً المصادر المتعلقة بتاريخ مصر الإسلامية، والأخرى المتعلقة بتاريخ المغرب الإسلامي ككل، وغيرها من كتب الرَّحّالة والْجُغْرافِيّين والْحُجّاج العابرين لأرض ليبيا. لذلك من أراد البحث عن أي موضوع عن تاريخ ليبيا في تلك الحقبة فعليه حصر كل ما كتب عنها في تلك المصادر وهي كثيرة العدد وشديدة التنوع والاختلاف، كما يلزمه قراءة آلاف الصّفحات والصفحات كي يستطيع تجميع الأخبار والرّوايات والأحداث والوقائع التاريخية التي تتعلق بليبيا، ثم تنقيتها -بعد ذلك- مما يشوبها من اضطراب وغموض وشمولية، ومحاولة تركيبها تركيباً تاريخياً سليماً ليصل إلى مبتغاه وكتابة ما يُجلي حقيقة ما يبحث عنه.
برأيك هل جهل الكثيرين بالتاريخ كان له دور في غياب هوية وطنية جامعة لليبيين؟
لا نستطيع أن نُحَمّل التاريخ أو الجهل به كل شيء، فهناك دول قائمة في وقتنا هذا ولها هوية حاضرة وقوية وليس لها تاريخ عريق كالتاريخ الذي تمتلكه ليبيا، ومن تلك الدول على سبيل المثال الولايات المتحدة الأمريكية، فعمرها لا يزيد على 300 سنة وسكانها غزاة أخلاط في أصولهم وأجناسهم وطبائعهم، وعلى الرغم من ذلك افقد استطاع نظام الحكم الأمريكي خلال تلك المدة تجميع السكان والولايات في هوية جامعة قوية يفتخرون بها متناسين الانتساب لولاياتهم أو جذورهم القديمة.
وفي حالة ليبيا وما نلاحظه مؤخراً من تشرذم في الهوية الوطنية الليبية وظهور أصوات تنادي بقبائلها وأخرى بمدنها وتالية بأقاليمها على حساب اسم ليبيا، كل ذلك حسب تحليلنا يتحمل وزره نظام الحكم السابق، الذي لم يهتم بالكينونة المحلية والسعي لتأصيل روح الانتماء والهُوية الليبية قدر اهتمامه بمشاريع وحدوية كانت ذات توجه قومي عروبي في بادئ الأمر، ثم انجرفت إلى توجه قاري أفريقي اضمحلت معه الهوية الليبية واستبدل خلالها اسم البلد من ليبيا إلى الجماهيرية.
أشرت في كتابك بأن للتلاحم والوحدة بين الليبيين جذور ضاربة في القدم هل نفهم من ذلك أن العامل الجغرافي شكل العمود الفقري لوحدة الليبيين ؟
صحيح، فللجغرافية دور كبير في وحدة الأمم أو انفصالها، وفي حالة ليبيا إذا نظرنا إلى جغرافيتها وتضاريسها فإننا لا نجد فيها من المظاهر الطبيعية -كالبحار والأنهار والجبال- ما يَصلُح لأن يكون فاصلاً أو مانعاً بين وحدة الليبيين، والحد الوحيد الذي فصل بين قِطْرَي البلاد في يوم من الأيام لم يكن حداً طبيعياً بل كان حدٌّ اصطناعي جعلته السياسة وليست الجغرافية، كما أنه لم يكن من صنع الليبيين، إنما من صنع القوى الاستعمارية في ذلك الوقت، وجاء نتيجة الصراع السياسي الذي كان بين اليونانيين في برقة، والفينيقيين في طرابلس، وهي قصة الأخوَيْن فيلِّيني المشهورة، التي انتهت بإقامة حد عند منطقة “العقيلة” حالياً، وهو المكان نفسه الذي دَشَّن به الفاشست الإيطاليُّون في العصر الحديث نُصُبًا تذكاريًّا على شكل قوس سنة 1929م، ليكون الحَدَّ الفاصل بين أرض طرابلس وأرض برقة.
ما هي مشاريعك في التأليف مستقبلا ؟
في الحقيقة وَطَّدْتُ العزم منذ طباعة كتابي الأول، على أن يكون جُلَّ جهدي منصباً لدراسة التاريخ الليبي والبحث عن قضاياه وحقبه الغامضة، ومثل تلك الموضوعات تأخذ وقتها في البحث والتمحيص والفهم والكتابة؛ وذلك لأسباب عدة منها نقص المادة المصدرية وتشويشها في بعض الأحيان. وحالياً أعمل على أربعة مشاريع في آنٍ واحد، اثنان منها تأليف، واثنان تحقيق لمخطوطات قديمة تتعلق بتاريخ ليبيا. وإن رزقنا الله العمر والبركة في الوقت لن تمر سنة 2025م، إلا ويكون أحد هذه المشاريع قد صدر في كتاب بإذن الله تعالى.
كلمة أخيرة:-
أشكركم على هذه الحوارية الطيبة، وأحب أن أُوضح أنّ التاريخ الليبي لا يزال يحتاج إلى الكثير من البحوث العميقة والدراسات الجادة للكشف عن الكثير من خفاياه ولا سيما خلال حقبتي القديم والإسلامي، وهذه مسؤولية تقع على عاتقنا نحن الليبيين وخاصة على عاتق أهل التخصص في الدراسات التاريخية والحضارية من الأكاديميين وطلبة الماجستير والدكتوراه، فلا يجب أن نترك للغير الكشف عن تاريخنا والكتابة فيه، فيتحكم في تعيين حدودنا وتبيان جغرافيتنا وتعيين أصولنا وتقويم هويتنا وما يترتب عن ذلك من توجيه مصائرنا بشكل جمعي سببه الأول والأخير جهلنا بماضينا وتاريخنا الأصيل، وفي الختام نسأل الله أن يجعل ما نقدمه للتاريخ الليبي علمٌ يُنتفع به، وأن يكون عملنا خالصاً لوجهه الكريم، فإن وُفِّقْنا في ذلك فهذا قَصدنا ومُرَادنا، وإن أخطأنا فَعَنْ غَيرِ عَمدٍ مِنّا، وما العصمة إلا لله وحده.