ما الذي أتنفسه من عبير الروح…
حنين الذاكرة يأخذني إلى أماكن قصية , زوايا مزخرفة بلون الطيبة والبساطة؛ هكذا سأتذكرها : بنتا ذات صيف,ذات ظهيرة قبضة يدها تشدّ بقوة وحنان يدَ أخيها (خالد ),كانت ابنة العم “زهرة ” تحرسهما, يدها تشدّ إليها “فراشيتها البيضا”وتمسك اليد الأخرى بهذا الصغير .
والحكاية كانت في الفزع الذي ينهمر ليلا على الولد الصغير فينهض صارخا,”العقارب , الحناش “ويجهش بالبكاء ,تحضنه الأم ويحاول الأب أن يحرس نومه,لكن ذاك الفزع رافقه والعقارب لم تكف عن لدغ هدأة نومه , والثعابين تنهش حلمه فينهض صارخا مرتجفا , وربما نتيجة لهذا الرعب تكاثرت قشرة الرأس وصارت بؤرا في شعر الصغير .
وتجمعنا “عالة الشاهي ” تجمع الأسرة , أو في جلسة الضحي “فم الحياش ” ونسوة السانية يتبادلن الحكايات والخبرات ,ونبهن الأم أن ولدها ” دواه عند سيدي العماري ” , لكنّ الأم تحاول اللحاق بالعصر فتأخذه إلى طبيب وآخر وتحاول , وهكذا بادرت ابنة العم واقترحت أن تأخذه في تلك القيلولة .
وكانت ظهيرة رائقة والولد خالد مستكين لذاك الركب الصغير, ,يداه تمتحان الحنان وخطواته تحاول ان تلحق بالخطوات التي تنهب الطريق لتصل إلى “سانية العماري ” ,مسارب مسيجة بطوابي الهندي ,أصوات تتمازج وتجعل المشهد مكتظا , ثغاء الخراف ,قوقة الدجاج ,صوت أم ينادي, وأبٌ يحاول ترويض ابن ” يشمّ في باطه “,همس وتغريد وهديل .
وهي “حواء الصغيرة ” مثل أم حانية تمسك يد الأخ وتبثه الأمان وتواصل الثرثرة معه,تحكي بعضا من قصص المدرسة وشغب الفصل حين فارقت “خطيفة ” سربها ودخلت من شباك الفصل الواسع , وكيف انقلب الهدوء إلى صخب وركض لمحاولة الإمساك بها , و” أبلة نوارة ” تحاول أن تمسك زمام الفوضى لتجد “الخطيفة “طريقها إلى الشباك وتحلّق بعيدا.
أخبرت أخيها الصغير أن “السنونو ” هو اسم “الخطيفة ” وهو طائر يهاجر ويأتي إلى بلادنا الدافئة بداية كل ربيع ,هكذا أخبرتهم “أبلة نوارة “معلمتها منذ الصف الثاني وحتى هذا العام وهي بالصف الرابع .
وأخيرا يعبرون مسربا مظللا ,يدخلان إلى رحاب سانية باذخة بالنخل والزيتون وكروم العنب والتين , ابنة العم تقوم بمهام النداء والسؤال عن الشيخ , ثم تقود الركب إلى شجرة نخل تربع وسط السانية ,نخلة ليست عالية وليست واطئة ,رأتها البنت مثل جدة تحنو وهي تسدل سعفها فيحوط تلك الدائرة حيث يجلس رجل بسيط بثوبه الليبي البسيط , “سورية عربية ومعرقة بيضاء” .
جلس الولد الصغير على التراب النظيف وأحاطه الشيخ بيديه متلمسا شعره, وجهه ويديه , ومرة أخرى وضع يداه على رأسه وفمه يتمتم بكلمات , انتبهت البنت أن الرجل” بصير” ويده تمسك بحفنة تراب لتمسح بها على رأس أخيها ووجهه وصوت كأنه من بعيد يأتي ” نوض ياوليدي ” فنهض خالد راكضا حيث أخته التى احتضنته وبدأت مع ابنة العم مشوار العودة (بعد أن أعطت العماري ماكتب ربي ) فهو لن يطلب شيئا ولكنّه لايرد يدا امتدت إليه .
ماالذي حدث بعدها؛ سأفكر الآن وأنا في هذا العام الثامن عشر من القرن الواحد والعشرين , ما الذي حدث. ؟
ببساطة ذاك الصغير لم يعد ينهض صارخا فزعا يبحث عن حضن أمه لتبعد عنّه (العقارب والحناش ) , بل حتى القشرة صارت تجف يوما بعد آخر حتى اختفت تماما من شعره .
بعد سنوات مات (سيدي العماري ) …..,
وجاء زمن ولم تعد هنّاك نخلة متربعة كملكة, في ظلها يجلس رجل بصير , رجلٌ كفَّ بصره لكنَّ عين قلبه ترى، يتلمس بيده النبيلة رأس طفل صغير يمسدّه بتراب نقي , يمسح على رأسه , يأخذ من عقله الصغير سواد كابوس ويزرع في روحه ضوء الأمل .
______________