الأحد, 30 مارس 2025
النقد

في رحاب التجربة الشعرية

قراءة في قصيدة “كان نصًا جميلًا” للأستاذ جمعة عبد العليم

قراءة في قصيدة "كان نصًا جميلًا" للأستاذ جمعة عبد العليم.. بقلم: توفيق عياد الشقروني
قراءة في قصيدة “كان نصًا جميلًا” للأستاذ جمعة عبد العليم.. بقلم: توفيق عياد الشقروني

في متاهات المعنى .. الهيرمونيطيقا وتجليات النص الشعري

في قلب كل نص أدبي، تكمن شبكة معقدة من الدلالات والإشارات، تستدعي قارئًا متأهبًا يمتلك أدوات التأويل والغوص في أعماق المعنى. هنا، تبرز الهيرمونيطيقا كمنهجية أساسية تسعى إلى فهم النصوص من خلال استكشاف سياقاتها التاريخية والثقافية والفكرية، والكشف عن آليات اشتغالها اللغوي والجمالي. إنها رحلة بحث مضنية عن “المعنى الكامن”، الذي لا يظهر بالضرورة على السطح، بل يتطلب جهدًا تحليليًا وتفسيريًا يكشف عن العلاقات الخفية بين الكلمات والأفكار.

وإذا كانت الهيرمونيطيقا تسعى إلى فك رموز النصوص بشكل عام، فإنها تكتسب أهمية مضاعفة عند التعامل مع النصوص الشعرية، التي تتميز بتكثيفها اللغوي، وغناها بالرموز والاستعارات، وتعدد مستويات القراءة فيها. فالقصيدة، بما هي كائن لغوي فريد، تدعو القارئ إلى تجاوز القراءة السطحية، والانخراط في حوار عميق مع النص، لاستكشاف آفاقه الدلالية المتنوعة.

وفي هذا السياق، تبرز قصيدة “كان نصًا جميلًا” لجمعة عبد العليم كنموذج شعري يستدعي قراءة هيرمونيطيقية متأنية. فالقصيدة، التي تتأمل في طبيعة الإبداع وزوال الكلمات، تقدم للقارئ مادة خصبة للتأويل، وتثير تساؤلات حول علاقة الشاعر بنصه، ودور الذاكرة في حفظ المعنى، ومصير الكلمات في عالم متغير. فمن خلال استكشاف المفارقات والتناقضات التي تزخر بها القصيدة، وتحليل رموزها واستعاراتها، يمكننا الاقتراب من فهم أعمق لرؤية الشاعر، واستخلاص دلالات جديدة تثري تجربتنا القرائية.

وفي فضاء الأدب، تتجلى النصوص الشعرية ككائنات حية، تحمل في طياتها تجليات الذات الإنسانية، وتكشف عن صراعاتها الداخلية، وتساؤلاتها الوجودية. وفي هذا السياق، نجد قصيدة “كان نصًا جميلًا” كنموذج شعري متفرد، ينخرط في استبطان عميق لعملية الإبداع، ويكشف عن هشاشة الذاكرة، وقدرة الكلمات على التلاشي، مما يدعونا إلى التساؤل حول طبيعة الكتابة وأهميتها في حياتنا. تتجلى في هذه القصيدة، براعة الشاعر في توظيف أدواته الفنية، لخلق تجربة شعرية مؤثرة تدفع القارئ إلى إعادة النظر في مسلمات الفن والكتابة.

القصيدة

كَانَ نَصًّا جَمِيلًا / أَوْ هَكَذَا كُنْتُ أَعْتَقِدُ .. / كَتَبْتُهُ عَلَى / رَجْعِ نَايٍ شَجِي / تَبَدَّدَ فِي مَقَامِ الانْتِشَاءِ / فَأَحْيَا بِهِ الرُّوحَ بَعْدَ مَوْتِهَا .. / تَرَنَّمَ فَانْسَابَتِ المَجَازَاتُ / كَجَدَاوِلَ عَاشِقَةٍ / تُلَامِسُ أَوْدِيَةً مِنْ حَصَى .. / اِسْتَعَرْتُ بَرِيقَهُ / مِنَ البِرَكِ الرَّاكِدَةِ / وَهِيَ تَعْكِسُ / سَنَا بَدْرٍ مُكْتَمِلٍ .. / مِنَ اللَّيْلِ / وَهُوَ يَحْتَضِنُ / حِكَايَاتِ الأَصْدِقَاءِ / مِنَ الشُّعَرَاءِ / وَهُمْ يَنْضُدُونَ قَصَائِدَهُمْ / عَلَى مَوَائِدِ السَّهَرِ .. / طَرَّزْتُ حِكْمَتَهُ / بِالوَصَايَا الَّتِي تَسَاقَطَتْ / مِنْ أَفْوَاهِ العَجَائِزِ / بَيْنَمَا يُوَزِّعْنَ / أَلْوَانَهُنَّ الزَّاهِيَةَ / عَلَى أَجْسَادِ الحَصَائِرِ / وَيَنْحِتْنَ الذِّكْرَيَاتِ / عَلَى وُجُوهِ الأَرْوِقَةِ .. / بِالعِشْقِ المُوَارِبِ / الَّذِي كَانَ يَسْكُنُ / صُدُورَ الصَّبَايَا / وَيَنْسَابُ أَلْحَانًا / مِنْ ثُقُوبِ اللَّيْلِ / حِينَ تَقْبِضُ الأَيَادِي / عَلَى أَقْطَابِ الأَرْحِيَةِ / وَتُفْرِغُ شَحَنَاتِ الحَنِينِ .. / حِينَ تُسْحَبُ / حِبَالُ الرَّجَاءِ / مِنْ غَيَابَةِ العُمْرِ / وَتُدَاعِبُ الأُمْنِيَاتُ / أَوْتَارَ البِشَارَةِ .. / كَانَ نَصًّا جَمِيلًا / أَوْ هَكَذَا كُنْتُ أَعْتَقِدُ .. / أَنْجَزْتُهُ فِي اللَّحَظَاتِ / الَّتِي يُغَادِرُ فِيهَا اللَّيْلُ / مُتَأَبِّطًا هَدْأَتَهُ .. / نَسَجْتُهُ عَلَى غِرَارِ / مَنَادِيلِ الوَدَاعِ / وَهِيَ تَمْسَحُ / دُمُوعَ الأَعْيُنِ المَهْجُورَةِ .. / سَبَكْتُهُ مِنْ رَوَائِحِ الأَرْضِ / وَهِيَ تَتَعَطَّرُ / لِشَبَقِ المَحَارِيثِ / بِشَهْوَةِ الإِنْسَانِ / وَهُوَ يَتَمَلَّصُ / مِنْ سَطْوَةِ القُيُودِ / وَيُهَاجِرُ صَوْبَ / مَدَائِنِ الاخْتِيَارِ .. / كَتَبْتُهُ بِوَلَهِ الحَالِمِ / ثُمَّ اِكْتَشَفْتُ أَنَّهُ / تَبَخَّرَ مَعَ أَوَّلِ صَحْوٍ / وَتَسَرَّبَ مِنْ شُقُوقِ / الذَّاكِرَةِ المَخْرُومَةِ .. / كَتَبْتُهُ بِوَلَهٍ / ثُمَّ ضَاعَ مِنِّي / رُبَّمَا لِذَلِكَ / رَأَيْتُهُ نَصًّا جَمِيلًا / أَوْ هَكَذَا كُنْتُ أَعْتَقِدُ

تحليل

تنطلق القصيدة من عتبة العنوان “كان نصًا جميلاً”، الذي يمثل مفتاحًا لفهم حالة الشاعر المتأرجحة بين اليقين والشك، بين الادعاء بالجمال والاعتراف بالتلاشي. هذا العنوان، ببعده الزمني “كان”، وبتردده الملح “أو هكذا كنت أعتقد”، يكشف عن مفارقة دقيقة، وعن وعي الشاعر بـ”الزمننة” التي تطال العمل الأدبي، فتحوله من كائن حي نابض بالجمال، إلى ذكرى باهتة، ربما لم تكن حقيقية يومًا ما. هذا التردد يمثل أحد أبرز سمات الخطاب الشعري الحديث، الذي يتجاوز الادعاء باليقين، وينخرط في حوار متواصل مع الذات والعالم.

من منظور هيرمونيطيقي، يمكن قراءة هذه البداية كتمثيل شعري لجدلية الإبداع والفناء، حيث تتأرجح الذات الشاعرة بين لحظة الولادة النصية المتدفقة، والاعتراف اللاحق بتلاشي النص وتبخره. إن استخدام الشاعر لعبارة “أو هكذا كنت أعتقد” يشي بنوع من الشك المعرفي، ويدعو القارئ إلى التساؤل عن مدى صحة الإدراك الأولي للجمال، ويفتح الباب أمام تأويلات متعددة. هذا التشكيك الذاتي، في جوهره، يذكرنا بمفهوم “التأويل الدائري”، حيث أن فهم النص يتشكل من خلال تفاعل مستمر بين الجزء والكل، بين الانطباع الأولي وإعادة الفحص النقدي.

تتوالى المقاطع الشعرية، لتكشف عن مراحل عملية الإبداع، بدءًا من لحظة التدفق الأولى، حيث يصف الشاعر الكلمات وهي تتشكل على “رجع ناي شجي”، و”تحيي الروح بعد موتها”، ليرسم صورة حية عن اللحظة التي يولد فيها الشعر. هذا التدفق الأولي، الذي يوحي بـ”صفاء اللحظة الإبداعية”، سرعان ما يتحول إلى عملية تركيب وتشكيل، حيث يستعير الشاعر بريق نصه من “البرك الراكدة”، ومن “حكايات الأصدقاء من الشعراء”، ومن “أفواه العجائز”، ومن “العشق الموارب”. هنا، تتجلى براعة الشاعر في توظيف تقنية “التناص” و”الاستلهام”، حيث يجمع بين عناصر مختلفة، ليخلق نسيجًا شعريًا متناغمًا، يعكس تعدد مصادر الإلهام، وتداخل التجارب الإنسانية. هذه الاستعارات ليست تزيين للنص، بل هي علامات دالة على وعي الشاعر بأهمية “المرجعيات الثقافية” في تشكيل العمل الأدبي، وكيف أن النص ينمو من خلال الحوار مع التراث، ومع التجربة الإنسانية جمعاء. في هذا السياق، لا تصبح القصيدة مجرد وصف لعملية إبداعية، بل هي استبطان فلسفي لطبيعة الذاكرة، وقدرة اللغة على الاحتفاظ بالمعنى. ومن منظور متجدد، يمكن اعتبار هذه الاستعارات بمثابة “علامات” أو “إشارات” تدعو القارئ إلى الانخراط في عملية تأويل نشطة، حيث يربط بين هذه العلامات وسياقاتها الثقافية والتاريخية، ليكشف عن طبقات المعنى الكامنة في النص. إن الشاعر، من خلال هذا الاستلهام، لا يعيد إنتاج الماضي فحسب، بل يخلقه من جديد، ويمنحه دلالات معاصرة.

إلا أن هذه اللحظات الإبداعية لا تدوم، فسرعان ما يكشف الشاعر عن “المفارقة الدرامية”، عندما يكتشف أن النص “تبخر مع أول صحوٍ”، و”تسرب من شقوق الذاكرة المخرومة”. هنا، تتحول القصيدة من وصف لعملية الخلق، إلى تأمل في الفناء والزوال، فـ”الذاكرة”، التي يفترض أن تكون وعاء للكلمات، تتحول إلى “وعاء مثقوب”، لا يحتفظ بشيء. هذه الصورة، التي تجمع بين “الملمح الحسي” (شقوق الذاكرة) و”الملمح المعنوي” (فقدان النص)، تكشف عن رؤية الشاعر المتشككة تجاه قدرة الكلمات على البقاء، وعن وعيه بـ”هشاشة التجربة الإنسانية” أمام صروف الزمن. إن تبخر النص وضياعه من الذاكرة يمكن تفسيره على أنه إشارة إلى هشاشة الوجود الإنساني، وزوال كل ما هو مادي وملموس. هذا الفقدان، من وجهة نظر هيرمونيطيقية، يثير تساؤلات حول “أفق التوقع” لدى القارئ، فبينما ينتظر القارئ أن يكتشف المعنى النهائي للنص، يفاجئه الشاعر بالاعتراف بفنائه، مما يجبر القارئ على إعادة النظر في افتراضاته المسبقة، والانخراط في عملية تأويل أكثر تعقيدًا.

تتميز القصيدة بـ”بنائها اللغوي” المتماسك، وبـ”إيقاعها الشعري” المتدفق، وبـ”صورها الحسية” الغنية، مما يجعلها تجربة قراءة ممتعة ومثيرة للتأمل. يحرص الشاعر على “ربط المجرد بالمحسوس”، فيصف “روائح الأرض” وهي تتعطر “لشبق المحاريث”، ويصور “حبال الرجاء” وهي تسحب “من غيابة العمر”، ليخلق توازنًا دقيقًا بين “العناصر الواقعية” و”العناصر الرمزية”، مما يمنح القصيدة بعدًا أعمق وأكثر شمولية. كما يمكن قراءة الاستعارات والتناصات التي وظفها الشاعر، كجزء من حوار أوسع مع التراث الثقافي والإنساني، في محاولة لإعادة إنتاج المعنى وتجديده. وهكذا، يصبح النص مجالاً للتفاعل المستمر بين الذات واللغة والتاريخ، ولا يقتصر دوره على نقل رسالة محددة، بل على إثارة التساؤلات وتحفيز التفكير. بالنظر إلى هذا التفاعل، نجد أن القصيدة تجسد ما يعرف بـ “اندماج الآفاق” (Fusion of Horizons)، وهو مفهوم يشير إلى التقاء أفق توقعات القارئ مع أفق تجربة المؤلف، مما يؤدي إلى فهم جديد ومشترك للنص.

في النهاية، تتركنا القصيدة أمام تساؤلات مفتوحة حول طبيعة “الجمال الأدبي”، وقدرة الكلمات على “تجاوز الزمان”، و”هشاشة الذاكرة الإنسانية”، لتؤكد على أن الإبداع ليس مجرد لحظة إلهام، بل هو رحلة مستمرة من “التشكيل”، و”التحوير”، و”التساؤل”، رحلة قد تنتهي بـ”خيبة الأمل”، ولكنها تظل ضرورية للكشف عن جوهر الإنسان وعلاقته بالعالم. تعكس القصيدة، في نهاية المطاف، “تجربة وجودية” عميقة، وتحمل في طياتها رؤية متشككة تجاه الذات والعالم، وتدفع القارئ إلى التفكير في “طبيعة الكتابة” و”وظيفتها” في حياتنا. في ضوء التحليل الممنهج، يمكن القول إن القصيدة لا تقدم إجابات نهائية، بل تدعونا إلى تبني موقف تأويلي مستمر، وإلى الاعتراف بأن فهمنا للنص هو عملية لا تنتهي، بل تتطور باستمرار مع تطور تجاربنا ومعارفنا.

وعند الختام

تظل قصيدة “كان نصًا جميلًا” تجربة شعرية دسمة، فيها دعوة للتأمل في “جوهر الإبداع”، وفي “ثنائية الثبات والتغير”، وفي “قدرة اللغة” على التعبير عن تعقيدات الوجود الإنساني. إنها قصيدة تترك في النفس أثرًا عميقًا، وتدفعنا إلى إعادة النظر في “مفاهيمنا النقدية”، وفي علاقتنا بالكلمات، وفي سعينا الدائم نحو “الجمال” و”الحقيقة”، لتؤكد على أن “الكتابة” هي فعل وجودي عرفاني يتجاوز حدود اللحظة الزمنية، ليبقى صداه يتردد في أعماق الروح.

الاثنين 10 فبراير 2025

مقالات ذات علاقة

من غرائب جنوب ليبيا (كاف الجنون) (2)

عبدالعزيز الصويعي

شاعر تَعِبٌ.. أين يضع رأسه؟!

حواء القمودي

المسلاتي.. إثارة الدهشة بتفجير المألوف

المشرف العام

اترك تعليق