الأربعاء, 26 مارس 2025
طيوب النص

من يسكن مدينتي

من أعمال التشكيلي الليبي بشير حمودة
من أعمال التشكيلي الليبي بشير حمودة

إنها تختلج في ركن ما، امرأة تتسكع في الشوارع، تمعن النظر مليا في وجوه المارة، تبدو ثيابها قديمة، رثة، ملطخة بالسواد، كأنها تبحث عن شيء ضاع منها، في البداية كنت أظنها تبحث عن طفلها، للوهلة الأولى رأيتها تسرع جيئة وذهابا، ثم تتوقف عند نافورة المدينة وتسترق النظر خلسة، قادني الفضول لأتتبع حركاتها التي أثارت الريبة، اختفت فجأة بين أزقة المدينة، وتلاشى فضولي المؤقت، فانشغلت بقراءة العروض التي وجدتها للتو على مقعدي الخشبي، إنه دليل للماركات العالمية التي تبيعها المحلات الآيلة للسقوط في هذه المدينة، العجيب في الأمر، أن وكلاءها يجلبون أرقى المشتريات، بينما مكان البيع تأسس منذ مئات السنين ولم يتحدد فيه شيء، فالطلاء ذاته، والإضاءة، وبعض الأبواب الحديدية الصدئة تلكم التي لا تقفل إلا بمفتاح أثري قديم، حتى الشوارع مازالت تجاعيدها تتصنع القوة، قلت في نفسي كم من الأمم والبشر جلسوا هنا وترجلوا، أنا كنت أشم روائح ذلك الزمن، من يسكن مدينتي سيعرف كيف يكون إنسانا بطعم الأزمنة الغابرة، شحُب وجه السماء على حين غرة بينما تدافعت سحابة قاتمة وهي تزمجر، فتطرد المارة من على الطرقات، بينما هرع الجميع ليستظلوا تحت المباني الإغريقية العالية، ذات المراس الصعب ، تشبه تماما مدينة سقراط المعذبة بالحكمة الصامتة، والحقيقة التائهة بين مسارب الحياة الخفية، قلت في نفسي: لماذا اجلس وحدي كتمثال أيقوني يجدد رهبة اللغز الحائر على ناصية تاريخ كتب ببراعة مخيال جسور؟ رأيت نفسي معلقا بين الأرض والسماء، يسري الهواء من فوقي وجموع من البشر يتدافعون ليوثقوا لحظات صفراء وهم يضغطون بشكل جنوني على أزرار الكاميرات (تشك ..تشك) الرجل التمثال، تظهر قدمه في نعل، والأخرى تنسلخ منه بينما النعل معلق في الهواء، كأنما تجتهد القدم في التقاطه قبل أن يقع على رؤوسهم دونما جدوى ليتيبس في الهواء، عقوبة من إحدى زوجاته التي اختلس مشاعرها وصنع منها قصيدة لامرأة أخرى، انصب جام غضبها عليه، وأصبح يهرول نحو الأفق كلما وصل، اختفت الأشياء!!!! يالرعب الأساطير، كنت مدمنا عليها… فأصبحتْ جزءا مني، أخشى أن أتحول إلى خرافة، حين يأتي الليل تسكنني مدينة من الأشباح، تتوالى عليّ بصور سحرية، تسرق مني وجه الحقيقة، فأنام كطفل أرعبته خرافة المرأة التي تسير بين الشوارع بـ(دون) ملامح واضحة، وجهها أجوف وجسدها جسد أنثى مرضعة، تبحث عن جنينها الذي أصابته كرة أحد الأولاد الأشقياء، فانبرى صراخه ريحا ملئت بالحصى كل من أصابته أصبح بلا ملامح…

انقشعت السحابة، امتلأ المكان بالمارة، ضحكات وثرثرات هنا وهناك، شمس نقية تبدو كحياة ثانية، فرصة لأنسلخ من خرافتي، أجمع بعضي، اعود أدراجي، أتبع طيفها، امرأة مثل الحية، تتلوى بين المنعطفات، اتبع ظلي، ينسلخ طيفها، تشتري علبة حليب، صوت دون جسد يخبرها أنه من قمم الجمال أخذ من أنثى الوعل، تمنحه درهم أصفر، يقلبه على الوجهين، يضعه في كيسه، تمضي ولا تلتفت ، أمضي خلفها، ضباب يملأ المكان، تختفي الأشياء، أفرك عيني، إذ بي يغالبني النعاس، وأنا متخشب تحت التمثال ذاته، والناس من حولي يلتحفون المدينة خوفا من المطر، لا شيء من سراب الأمس سوى الحوائط المائلة، تحمل في بطونها خربشات يغطيها الضباب، وحارس ينتعل حذاء واحدة .

مقالات ذات علاقة

إرث الزنابق الحمراء

نبيلة سالم الطاهر

خُـذنِي إليـك

المشرف العام

عَــنِ الْحَــــيَاةِ وَالجَــمَـــالِ.. (3)

جمعة الفاخري

اترك تعليق