آثار ملاحتها لم تبرح ملامحها، ظلت جلية واضحة لا تخطئها عين، كلما أخبرها أحدنا بانها مازالت جميلة تردد وابتسامة استحسان تطفو على محياها؛
– (السيل له جرة)
تتوكأ على عكاز خشبي يئن تحت ثقل سنواتها التي تناهز الثمانون، الشيخوخة وما فعله الزمن لم تقف حائلاً امام حرصها على اناقتها وارتداءها بدلة عربية كاملة، لا ينقص منها شيئاً، ثوب من الشيفون فوقه رداء حرير في الاغلب تفضله باللون الاخضر، يتناسق مع لون وشمها المطبوع على ذقنها وبين حاجبيها، تعقص محرمة الرداء على مقدمة رأسها بطريقة جميلة تليق بها، يفوح منها عبير العنبر والمسك الدرناوي ورائحة الجدات الحميمة.
جلست على أحد المقاعد دفعة واحدة، تسارعت انفاسها وكأنها قطعت مشوارا طويلا، بللت شفاهها الجافة بريقها. حدقت في ثقوب اذني اللتين يتخللهما خيط رفيع من النايلون في انتظار ان يأتيني ابي بقرط ذهب وعدني به ولم يفي بوعده، ضحكت ضحكة قصيرة:
– يبدو ان ابني ورث عدم الوفاء بالوعد من ابيه.
منذ ما يقارب الستين سنة تقدم جدك لخطبتي، كنت فتاة جميلة تسابق كثر للزواج مني، لم يروني، فقط سمعوا عني من امهاتهم او قريباتهم فالنساء في زمننا لا يخرجن ولا يراهن الرجال الا نادرا.
أعمامي وامي رحبوا بالخاطب، فجدك رجلا لا يُرد، اخلاق وعلم وهيبة، صفات تتمناها كل العائلات، هذا ما شهد به عمي الذي كان بيته ملاصقاً لبيتهم..
ابي رحمه الله كان رجلا صارما وكلمته مسموعة، وافق، لكنه وضع شرطاً صعب التنفيذ، ان يجلب جدك تكليلة من الذهب مهراً لي. التكليلة تكلف مبلغا لا يستهان به في ذلك الوقت، لا يستطيع توفيره الا قلة، لم تحظ أيا من بنات العائلة بالتكليلة عند زواجها، جلهن كان مهرهن مبلغ زهيد من المال.
توقفت جدتي قليلا عن الكلام، أخذت رشفة من كوب الشاي الذي ناولته لها بللت به شفاها الجافة، نظرت امامها بعمق وكأنها تغوص في الماضي البعيد. أبلغ ابي اهل العريس بطلبه، أحرجوه بردهم:
(أنتم تشترون رجلا، ابنتكم لن ينقصها شيء)
لكن أبي أصر على طلبه إما ان يأتي بالتكليلة او يجد نصيبه في مكان آخر..
انسحب جدك، اعترضت امي اعتراضاً هادئاً كعادتها على قرارات ابي:
– كل الناس شهدت للرجل، ماذا ستفعل التكليلة لابنتك؟؟
لم يأبه لما تقول، بعد شهرين رافقت والدتي لزيارة عائلة عمي، الحر كان خانقا يومذاك، جلسنا في الحديقة نبحث عن نسمة هواء، اثناء انهماكي بالثرثرة والمزاح مع بنات عمي تفاجـأت بأحدهم يدفع الباب، ادار وجهه الى الجهة الاخرى وسال ان كان عمي موجود أم لا؟؟، كنت جالسة مقابلة له، لم اراه ويبدو انه رآني، ذلك الرجل كان جدك.
لم تمض ثلاثة ايام حتى اتي مرة اخرى لخطبتي. ضحكت جدتي ضحكة شقية وغمزتني قائلة:
– يبدو أنى شغفته حبا عندما رآني، لم يتراجع أبي عن طلبه.
التكليلة هي مهري ولا شيء غيرها. وافقوا على طلبه هذه المرة، لكن ابي طلب ان يرى جدك قبل العرس بأيام قلائل، خرج من اجتماعه مع العريس وهو متهلل والرضا يبدو على وجهه بدا انه اتفق معه على شيء ما لكننا لم نعرفه ولم نجرؤ على سؤاله.
قبل الزفاف بيوم اتوا بامرأة كما جرت العادة لتخرم لي اذني في المكان الذي توضع به التكليلة وسط زغاريد النساء وغنائهن: (ما خسارة فيه التكليلة سمح الزول بوعين كحيلة)
كانت نظرات الحسد والانبهار مرسومة بوضوح على وجوه زوجات أعمامي وبناتهن، الكل لا حديث له الا عن التكليلة وعن حظي الذي يفلق الصخر.
ضحكت جدتي كثيرا قبل ان تقول:
تم زفافي وأذني مخرومتين ونظرات الحسد تشيعني… ولم يحضر جدك التكليلة.