حين وطئت قدماه أرض الميناء، حملته الريح القادمة من البحر برائحة الملح الممزوجة بعبق الأزمنة الغابرة. طرابلس، المدينة التي حفظ شوارعها عن ظهر قلب، لم تعد كما كانت. الميناء الذي كان يعجُّ بصيادي السمك والتجار صار مكانًا هادئًا، كأن البحر نفسه كفَّ عن النداء.
مشى نجيب بين الأزقة القديمة، حيث كانت الواجهات الحجرية تروي حكايات قرون مضت. كان يحمل في صدره حلمًا ثقيلاً، كأمواج البحر حين تثور. حلم والده الذي رحل قبل أن يرى السفينة التي أراد لها أن تعود للحياة. كان والده آخر من تمسّك بفن صناعة السفن الخشبية في العائلة، وحين هاجر نجيب قبل عشر سنوات، ترك خلفه حوض بناء السفن الصغير، الذي كان يومًا ما مصدر فخرهم.
عند باب الورشة، وجدها موصدة، والغبار قد غطى لافتتها الخشبية. طرق الباب بحذر، فخرج إليه رجل مسنّ، نحيل الجسد، ذابل العينين. كان العم صالح، رفيق والده القديم. نظر إليه الرجل طويلًا قبل أن يهز رأسه ويقول:
— “ظننت أنك لن تعود، يا نجيب.”
فتح له الباب، فدخل إلى المكان الذي كان يعجُّ بأصوات النجارين، برائحة الخشب المشبع بالملح، بصدى والده وهو يشرح بفخر كيف تُولد السفن. لكن كل ذلك لم يبقَ منه سوى طاولات مغطاة بالأتربة، وخشب مهمل، وأدوات فقدت بريقها.
— “لماذا توقفتم؟” سأل نجيب وهو يمرر أصابعه على سطح إحدى الطاولات.
— “لم يعد أحد يريد السفن الخشبية. الحديد أسرع، والماكينات تأخذ مكان الأيدي.”
جلس نجيب بصمت، ينظر إلى البحر من النافذة الصغيرة. البحر الذي حفظ له والده كل أسراره، البحر الذي كان يقول له: “لا تخنه، وإلا خانك.” كان يعرف أن استعادة حلم والده لن يكون سهلاً، لكنه لم يعد ليقف متفرجًا.
في الأيام التالية، بدأ نجيب يعمل وحده في الورشة، ينفض الغبار عن الأدوات، يصلح الطاولات، ويعيد ترتيب الأخشاب. كان العم صالح يراقبه بصمت، ثم بدأ يساعده. شيئًا فشيئًا، بدأ الناس يلتفتون إلى الورشة القديمة، بعضهم جاء بدافع الفضول، وبعضهم جاء ليسأل: “هل يمكنكم صنع مركب صغير لي؟”
لكن البحر لم يكن كما كان. والميناء لم يكن كما كان. كان على نجيب أن يقاتل، ليس فقط لاستعادة إرث عائلته، بل لإقناع الناس أن بعض الأشياء لا يجب أن تموت، حتى لو تغير الزمن.
وفي ليلة، حين أنهى نحت آخر قطعة في أول سفينة يبنيها بيديه، وقف على الشاطئ يتأملها. هبت الريح، وتحركت الأمواج، وكأن البحر يبارك له عودته.