السبت, 29 مارس 2025
طيوب البراح

أمل… وما بقي مني!

الطفلة أمل (الصورة مولدة بالذكاء الاصطناعي)
الطفلة أمل (الصورة مولدة بالذكاء الاصطناعي)

قابلتُ أمل الصغيرة اليوم في المقهى، جاءت متحمّسة قبل الوقت، وكأنها لا تطيق صبرًا حتى تراني، أشعر بالذنب لأني جعلتها تنتظر طويلًا، لكنها لم تبدُ غاضبة، فقط متحمّسة، تمسك بطرف فستانها وتنظر حولها بترقّب.

ضفيرتاها الذهبيتان تتأرجحان على كتفيها، وجواربها البيضاء كقلبها، تذمرت فور أن رأتني، عبست وقالت إنها تكره تسريحتها، وإن والدتها تجبرها عليها كل صباح. ضحكت، لم أخبرها أنها أجمل ما فيها لأنني أعلم انها عنيدة لن تهتم بأي إطراء، لم أخبرها أنني الآن أتمنى لو بقيت طفلة بضفائر لم تحبّها يومًا وأنني أشتاق إلى من كانت تُجبرها على ذلك.

أما أنا، فجئتُ مرتدية حلّتي التي تفحصتُها في المرآة ألف مرة قبل خروجي، وخمس مرات أخرى من كاميرا الهاتف. لاحظتُ أنها لم تهتم بملابسي، لكنّها تأمّلتني طويلًا، كأنها تحاول أن تفهم كيف أصبحتُ بهذا الشكل، بهذه الملامح الثقيلة التي لم تعتدها.

كانت تنظر إلى ساعتها كل خمس دقائق، تخشى أن يتأخر الوقت، تخشى قلق والديها عليها، تخشى أن تُوبَّخ عند عودتها. كدتُ أبكي، لأن هاتفي لم يُصدر أي صوت، لأنني لم أعد أخشى أن يُوبّخني أحد، لأنني لم أعد أملك من يخاف عليّ إن تأخرت. خفتُ أن أخبرها أنهم رحلوا.

تحدثنا طويلًا، أخبرتني عن تعلّقها برفاقها، عن حنينها لأزقّة الحي، عن ضحكات تعرفها كل شجرة في الطريق. أدهشنيكم أنني نسيتُ هذا الشعور تمامًا، نسيتُ معنى أن تكون الأماكن مألوفة، أن تحمل ذاكرة داخلها، أن يكون هناك مكانٌ واحدٌ فقط يمكن تسميته “وطن”.

لم أُخبرها أنني لم أعد أعيش في ذاك الحي، أنني غادرت المدينة كلها، أنني الآن أعيش في مكانٍ لم أحلم به يومًا، وأنني –على عكسها– لم أعد أشعر بأي انتماء. لم أُخبرها أنني أفكر في مغادرة البلاد كلها، رغم أنها كانت وطنيةً حتى النخاع، رغم أنها كانت تبكي في الطابور الصباحي وهي تردد النشيد بحماسٍ لا أفهمه الآن.

قالت لي إنها تحب الجميع، وإنها مستعدة لأن تهبَ العالم كله حبًا بلا مقابل. ابتسمتُ، لم أخبرها أنني لم أعد كذلك، أنني الآن أفضّل حب نفسي على حب الآخرين، أنني لم أعد أُؤمن بأن الحب بلا حدود هو شيءٌ جيد، أنني دفعتُ ثمن هذا الحب كثيرًا، ولم يعُد في قلبي ما يكفي للجميع.

سألتني عن دراستي، فابتسمتُ وأخبرتها أنني أدرس القانون كما تمنيتُ دائمًا. لم أقل لها إن الشغف صار أقل، وإنني الآن أدرك أن الدراسة لم تكن الحلم، بل كان الحلم شيئًا آخر، لم أكتشفه إلا متأخرة.

أمل الصغيرة كانت تراني غريبة، وأنا كنت أراها… نقية، مليئة بالأحلام، محاطة بأشخاصٍ لم يعودوا هنا، تمشي في شوارع لم تعد شوارعي، تتعلق بأشياء لم أعد أؤمن بها.

كنتُ أريد أن أضمّها، أن أخبرها أن طيبتها لن تكون ضعفًا، وأنها ستُنقذها من كل شيء، حتى من نفسها. كنتُ أريد أن أقول لها إنني أشتاق إليها، وإنني أريد أن أعود ولو ليومٍ واحد، بضفيرتين ذهبيتين، وجوارب بيضاء، ووطنٍ لا أريد أن أتركه.

مقالات ذات علاقة

تبـقى الصـورة

المشرف العام

قمّيلة

المشرف العام

عندما تبرق السماء

المشرف العام

اترك تعليق