«سمع انتهارات الحكيم، خيرٌ من سَمْع غناء الجُهّال» العهد القديم ـ سِفر الجامعة (7:5)
1ـ الإمام
عرفتُ أمين مازن في منتصف ستينيات القرن الفاني، في تلك المرحلة من زمنٍ رومانسيّ، كانت فيه المقاهي، في واقع الحاضرة طرابلس، منتديات أدبية حقيقية، يرتادها فرسان أدبٍ، مسكونون بوجع ماضي الوطن، يهدهدون أحلاماً، مشفوعةً بروح الشعر، علّ هذه الروح الشعرية تصلح شفيعاً، في حبك لقية تغيير، تتحقّق بمشيئة المستقبل.
هل قلت تغيير؟ بلى! حلم التغيير كان، في يقين الجيل، الإفيون في استطلاع مجاهل المستقبل، ليغدو الموقف من هذا التغيير هو التميمة السحرية التي تعاطاها فرسان المرحلة، ليلعب أمين مازن دور العرّاب، في ملحمة التغيير، لا في هذه المرحلة الحرجة المبكّرة من وطن ما بعد الاستقلال التراجيدي الوجيع، وحسب، ولكنه لعب دور البطل، في اعتناق دين التغيير (الذي لن يكون هنا سوى دين التحرير)، في كل تاريخ ليبيا الحديث، أي منذ الوعي البكّر، بمعنى أن يولد الوطن بالاستقلال من رحم العدم، بعد نزيفٍ دمويّ استغرق أجيالاً، بل قروناً، ليستنشق سليل الوطن أنفاس أنفس ما في الوجود وهو: الحرية، ليحقق ميلاداً بالروح، هذه المرة، بعد ميلاده الأول بمشيئة الطبيعة. ربما لهذا السبب عاهد هذا الإنسان نفسه أن يحيا في هذا العالم، لا لكي يقدم الولاء لأولئك الذين تسلّطوا، ولكن لكي يأخذ بيد أولئك الذين سقطوا، محاججاً بذلك موقف القدّيس أوغسطين الذي حرّض الأجيال، لا أن تحيا لتُحيي، ولكن لكي تموت في كلّ ما متّ بصلة لواقع هذا العالم. أي أنه لم يتعاطَ دين الزهد في حطام الدنيا لكي يتبنّى موقفاً عدميّاً من هذا العالم على طريقة القدّيسين أمثال أوغسطين، ولكنه أدمن الزهد، لكي ينتصر لمستضعفي هذا العالم، فعاش، ليختزل هؤلاء في نموذج مصغّر، هو: أبناء الوطن، الذين أحبّهم، لأنهم، في واقعه الحرفي، القبيلة الإنسانية، فأنصفهم في تجربته الوجودية الثرية، ليسدّد، بهذه البطولة، فاتورة الواجب، الذي نصّبه عرّاب العقل البشري، عمانويل كانط، قاضياً على بلاط السعادة، عندما تغنّى في إحدى وصاياه: «نحن لا نأتي إلى هذه الدنيا لكي ننال السعادة، ولكننا نأتي لكي نؤدّي الواجب». وأمين مازن حكيمٌ ارتضى لنفسه دور المريد، المتبتّل في حرمٍ جسيمٍ هو: الواجب! وكل مواقفه الشجاعة، سواء السياسية أو الأدبية، أو الوجودية، إنّما هي استعارة من هذه الخزنة الإلهية وهي وجوب أداء الواجب، ممّا سيعني أنه لم يكن ليصير حكيماً، أو معلّم أجيال، كما أصبح اليوم، لو لم يقبل التضحية بمنافعه الدنيوية، وبسعادته الشخصية، فقط لكي يحقق ما تمليه الحقيقة، لا ما تمليه الأهواء، أو وسوسات النفس الأمّارة بالسوء، دون أن تفقد هذه التضحيات الوجيعة، روح المرح، بل وروح السخرية، التي كانت طبيعةً في مسلك العظماء، إلى الحد الذي دعا المهاتما غاندي أن يعتمدها كترياقٍ لمداواة داء الحكمة، وهو هاجس الانتحار!
ومن عرف أمين مازن وحده يدرك أن روح السخرية لم تُجِرْه من الانتحار وحسب، ولكنها حصّنته من أوبئة كثيرة، هي فاكهة باطل الأباطيل، الذي يأبى إلّا أن يسفّه، في واقعنا الدنيوي، كل من فضّل أن يعتنق دين القيمة، مقابل التضحية بالغنيمة، كما برهن في كل سيرته الطويلة، والعصيّة، في العلاقة مع الأنظمة السياسية، وفي مواقفه النقدية الصارمة، من رموزٍ وطنية تنكّرت للقيمة، ما أن تبوّأت مناصب فانية، فكان ملاذ المواجهة مع نماذج هذه المسوخ، ليقينه بأن المعدن في طينة الرجال تكشفه السلطة. ولم يكفر يوماً بالعلاقة الإنسانية، رغم أنف خيبات الأمل، المصاحبة عادةً لمثل هذه المفارقات الدرامية، التي تدفع ضعاف النفوس إلى الاغتراب الروحي، في واقعٍ فانٍ، الوجود فيه مجرد مهلة هزيلة، بين مهدٍ، هو، بمنطق الزمن، ومضة، ولحدٍ، بمفهوم التاريخ، غمضة! وهو ما لم يكن ليغيب عن وجدان رجلٍ في مقام أمين مازن، لقّنته التجربة الدنيوية درساً فلسفياً، في العلاقة مع واقعٍ معادٍ بطبيعته للحقيقة، التي راهن عليها كقدس أقداس، ولكن الواقع الخائب أبَى إلّا أن يسفّهها، في دعوة ضمنية لتبنّي الموقف العدميّ من حقيقة هذا الوجود، ولكنه لا يستسلم، لأن يقينه بوجود حقيقة في هذا العالم الجاحد والمعادي، هو مسألة حياة أو موت، وعندما اختار أن يُحيي، إنّما اختار البرهان الدمويّ على إيمانه بوجوب أن يذهب ليموت في المساء، فيما لو كشفت له الحقيقة عن نفسها في الصباح، عملاً بوصيّة لاوتسي، عرّاب ديانة الـ«ثاو»! وشجاعة الرجل إنّما تدين بالفضل لهذا الإيمان المنيع، ليستعير منه القوّة في المجاهرة بما لم يكن ليُرضي أي نظامٍ سياسي، بدليل صنوف الإقصاء، الذي استنزلته السلطات في حقّه، في كافة العهود الزائلة، بل والقائمة، منذ العهد الملكي حتّى اليوم، ليحقق بهذه الفروسية سعادة الحكماء، الذين يضحّون بالسلطة، وبالمال، وبالصيت، وحتى بالأمجاد، في سبيل تلبية نداء الضمير، ليرموا بقفّاز التحدّي، في وجوه الخصوم، بسؤالٍ خالد، هو: «أوَ ليس في الإيمان، يسكن خلاصك أيها الإنسان؟». ولمّا كان وجدان المؤمن مستودعٌ ملفّق من طينة حبّ، فإن البرهان على وجود الله يتجسّد في وجود هذا النموذج، كحجّة أقوى فتنةً، من شطحة بليز باسكال، القاضية بتسويق وجود الطير، كدليلٍ على وجود الإله، لتحيا، في واقعٍ، نكران الإحسان فيه هو العملة الرديئة المهيمنة، فلا تكتفي، ولكنها تجود على الواقع بالحكمة، التي تصنع تعويذة التنوير، التي تلعب دور البطولة في رسالة عرّاب التنوير، في حقّ أكثر من جيل أدبي، ظاميء لاحتراف الأدب، فلا يكتفي بأن يلقّن الأجيال درس الأدب، في مفهومه كإبداع، ولكنه يأبى إلّا أن يلقّن درس الأدب في مفهومه الأعظم شأناً، وهو: الأخلاق، عندما يأبى إلّا أن يحرّض، في حملته، على حبّ الحقيقة، لأنها كلمة السرّ، في معجم أية تجربة دنيوية، سيّما عندما تستعير أبعاداً وجوديّة، ليغدو حبّ الحقيقة رأس المال في نزيفها الفجيع، وإلّا لما استحقّ مريد الحقيقة منزلة الشهيد قيد الحياة، في معجم الناسوت.
هذه هي الرئة التي يتنفّس بها أمين مازن، فلا يعود الالتزام الأيديولوجي، أو المفهوم السياسي، هو القياس، في فحوى الإبداع الأدبي، ولكنه الرؤية الأخلاقية، لأنها هي ذخيرة القيمة، الحميمة الصلة بجلالة الحقيقة، ليغدو الرجل، بهذه الروح، سادناً في حرم الميثولوجيا، التي استعارت الآداب من ينابيعها، شهادتها في الإنتماء إلى علم الجمال، المشفوع بوَسم اللاهوت.
السادن هنا يحمل في أعطافه معبداً، هيهات أن يستوعبه منتدى، هو مقهى «أورورا»، الذي يحتضنه شارع الاستقلال، أو يحتويه منتدى آخر، هو مقهى «جنان النوّار»، الواقع بشارع الوادي، فلا يكتفي وهجه أن يهدي ظامئاً إلى ينبوع خلاصٍ، لا وجود له خارج الحكمة، ولكنه يحبك نسيج منارة واقع الحاضرة، المفتونة بالحلم، بالشعر، بالمعزوفة الوجدانية، التي تترجم ملحمة حضور الحاضرة على شطآن بحر ليبيا الأوليسي، الرومانسيّ، الذي كان مسقط رأس الملاحم، بقدر ما تباهى بهوية مسقط رأس التكوين، في عمقه الصحراوي، كترجمانٍ لحضارات ما قبل التاريخ، التي كان لها الفضل في صنع مجد اليونان الذهبي، كما يعترف عرّاب تاريخ ما قبل التاريخ هيرودوت في تاريخه المرجعي، لينطبع الوسم الروحي، المستعار من واقع الزمن الضائع، على المعمار الإستعماري في أبنية الحاضرة، في شوارع كانت، حتّى ستّينيات القرن، عامرة بالتنوّع السكاني، من طليان ويهود، وأعراق أخرى، لتصنع المناخ الثقافي لمكانٍ حديث العهد بميلاده من اغترابٍ دام طويلاً، في مرحلة من الطبيعي أن يهدهد الناس فيها أحلاماً لتحقيق ميلادهم الثاني، الذي قبل فيه جيل أمين مازن من الروّاد، التحدّي، لأن يكونوا أكباش فداء لصنع مستقبل، يهنأ فيه الأخيار باغتنام الروح في واقع هذا الميلاد الثاني، بمفرزة فرسانٍ، كانوا أنشودة هذه الأرض، ولكن الأرض اليوم، بغيابهم، فَدفَدٌ، قامات منيعة، تنوء بحمولتها الأسماء، أمثال: خليفة التليسي، وعبد الله القويري، ويوسف الشريف، ويوسف القويري، وأحمد إبراهيم الفقيه، ومحمد أحمد الزوي، وكامل عراب، وعبد الكريم الدنّاع، وعلي أبو زقية، وسليمان كشلاف، وغيرهم، الذين لم يكتفوا بأن يكونوا لأمين مازن أعواناً، في حمل وزره الرسالي، ولكنهم كانوا في واقعه خلّاناً، وأن يكونوا خلّاناً، يعني أن يكونوا عزاءً، وهو عزاء، بمثابة فردوس مفقود، في واقعٍ، نغترب فيه اليوم باغترابهم، فلا يدهشنا أن تتبخّر مدارس، كانت لها مقاهي الحاضرة ملاذاً، لتحتضر روح الوطن، في واقع الوطن، باحتضارهم، فلا يعود الوطن وطناً، ولكنه يتحوّل مجرد مكان، والمعمار الإستعماري، لا يعود معماراً، لا يعود عمراناً، ناطقاً بسيماء الجمال، ساطعاً بإيماء الشعر، ولكنه يلفظ أنفاس النزع الأخير، لينقلب أطلالاً!
ولكن هل الجمال، هل الشعر، هل المعزوفة الوجدانية، تسكن أطلال الحرف، الذي يُميت، أم أنها تسكن الروح التي تُحيي؟
اليقين أنها تسكن روح الإنسان، روح الإمام، الذي نصّبته الأقدار وصيّاً على روح الوطن، في شخص أمين مازن، الذي اختزل، بالحب، كل المفرزة الفروسية، التي أحبّت الوطن، ونزفت بالروح، لإعلاء شأن الحقيقة في الوطن، ليكون هو، لا سواه، المنقذ الذي سطعت في حضوره القيم، ليتبوّأ منزلة شاهد العيان الأخير، الذي يجسّد القيمة، التي صنعت مجد الوطن، وتغنّت بنزيف رفاقٍ، خذلهم الوطن، فصاروا شهداء وطن!
وها هو يقف في دنيانا اليوم وحيداً، بعد أن اغترب أولئك الذين استودعوه أنبل ما فيهم، ليحيا، بثروتهم، سعيداً، برغم هويّته، بفقدهم، شهيداً!