أتعلمون ان استخراج الراديوم وكتابة قصيدة سواء بسواء.. يفترض ان الشاعر اكتفى بذلك، غير انه مثل معلم صبيان سرعان ما لزم نفسه بالشرح، ” يكدح” المرء سنة ليحصل على غرام واحد من المعدن، ومن أجل كلمة واحدة يقلب المرء الف طن من معدن الكلام”.
كان هذا مفتاح معين بسيسو لدراسة الشعر الليبي في كتابه” عطر الارض والناس في الستينات عن دار نشر ليبية – دار الميدان – لم تنشر غير هذا الكتاب الذي اذكره معين بسيسو بعد ذلك وحتى يومنا هذا -وقد توفى منذ سنوات – وان لم ينس هذا المفتاح الذي عاد وفتح به كتابا آخر عن ليبيا هو” كتاب الارض”.
إنه كلام جميل على حال، ولابد لمن يقرأ سعيد المحروق ان يكون مدخله للقراءة هذا التأكيد على ان البحث عن كلمة مثله مثل استخراج الراديوم، لان سعيد المحروق – وفى هذا يشبه المعلم الكاتب يوسف القويري ومن شابه اخاه ما ظلم – الباحث عن قطرة ماء في عوسج الصحراء، الممحص الذي يقلب كل الاسفار ليستقر على اصطلاح، الذي تحرقه كل اللحظات يمسك باللحظة.
اللحظة الحجرية
سعيد الحروق اللحظة الحجرية، الذي يقلب الحجر، جحر الصحراء كله ليحصل على وجه اكلته الشمس القائظة، امنا في ساعات غضبها التي لا حد لها في الصحراء الكبرى، صحارى دواتنا.
سعيد المحروق ينقلب على لسعات حيات – حياة هذه الصحراء يمسك بحكاية صغيرة بددتها الشفوية طارت من شفاه لم نسمعها اذن ولا عين رأت.
انه المستخرج لبواطن الكلم، الكادح لسنوات ليحصل لنا – على (ال) هاته ال (ال) التي سقطت من لغة اجداده، هذه (ال) التي تنكره هي (ال) التي تكتم اصواتنا.
هذا الشفوي هو الشاعر الذي يبغض فصاحته وينحاز للسانه لسان اللحن الذي قال “ان القول، اساسا،
مكذوب”
الذي
“يستعصى عنى تكييف الشفتين
ما بين
البين”
الذي
الفتحة، مثلا، ترهقني
والضمة، والكسرة، والتنوين”
إن سعيد المحروق يحترق بتفاصيل الكلام بكلام الكلام ال. . لهذا يبدو ضاجا في صمته، صاخبا في سكونه ويبدو شاعر الركن القصي. شاعر (بروست) الباحث عن الزمن الضائع، الزمن الذي لا يعد بالألف عام شاعر اللحظة السرمدية اللوحة التي تنافر في مكانها في قلق صحارى تسيلي وقلق نيران لوحاتها
“فانا اخش ان ينصني الناس افكر جديا
أو اعبس جديا
أو اضحك جديا
أو يفضحني
حب،
أو رعب أو
احساس
الحاصل: اخش ان افرد عن قطعان
الناس”.
وكان طرفه بن العبد قد افرد وصلب وهو الذي لم يقل بعد ما يرغب وما يجب ان يقال، وهو الذي جعل ناقته تخب في وجداننا القرون، هذا الحكي الشعبي، البست لازمة الحكاية الشعبية وخلاصة المحكي؟
الادب الشفوي والذاكرة
بعد نشر ديوانه الأول (ال) والثاني (أشعار كاتمة للصوت) جمع سعيد المحروق حكايات شعبية في كتاب (اصوات منتصف الليل). وقد اهتم بالأدب الشفوي لأنه شاعر يدرك أهمية هذا الادب في تكوين تضاريس الذاكرة، ذاكرة الشاعر غير المثقوبة. ويمكن ان نتحسس ان البنية الشعرية عنده ترتكز على الشفوي سوى كان ذلك في الصورة التي تثني بحركة السرد الخفية وبإيقاعه أو الايقاع الشعرى في القصيدة الذي يجلجل بأصوات وايقاعات الحكي وفي هذه الحوارية بين الذات والذات وبين الذات والآخر، والذات الاشياء والتي تجعل قصائده قصائد درامية تستعير من الحكاية بنيتها وتتخذ السرد وسيلة للبوح وهذا التململ من التعقيد الكامن في اللغة وفي بنية القصيدة العربية حتى يبدو المحروق بقضية الحداثة الشعرية وشكل الكلاسيكي وقصيدة النثر انما عمله المشغلي قائم في شكل آخر هو اللغة.
” عادة اللغات في الأزمنة الخوفية”.
ولعل وراء هذا المشكل تيه المحروق الذي هو: ” الثور المنسي في جوف الطين”.
وقد يأخذ المشكل هذا عن الشعرية والشاعرية، ان كان حسه وحدسه هما وليله في صحراء هذه اللغة/القواعد التي لا حدود لها ولاحد والتي تزور الحس وتنتحل المنطق في مواجهة الحدس.
“وان اشباه الفراشات التي
قد زورت، وانتحلت..
هوية الفراشة الحقة، بالتحوير والتدوير
هي التي اتت
على قوت الفراشات الاثير
واكلت في هذه الشموع، النور”.
الحياة السرية
وأحيانا يركن الى ركن قصي” الحياة السرية” بعيد عن الاذواق الليبية
وعن خطيب الجمعة، وفى مثل هذه القصيدة يسجل الشاعر تبرمه من اليومي القمعي والمكرور ويبدو هتافه محض هتاف.
” وبالخلسة من كل التعليقات
علقت، ولكن بالمقلوب”.
ولهذا تبدو لغة الديوان في هذه القصيدة لغة محتضرة تضغط على الاحرف وتوالد المفردات وانبثاق السجع رغم ان” عزرائيل يبتكر فنون الموت. . في صمت”. ولأن المحروق مشغول بالقول، مشغول بالبوح بالإفصاح فإنه يكتب الهم الموضوع الذي يكتم انفس الذات هذه الذات التي تبدأ وكأنها تستغيث الاستغاثة الأخيرة فتبدو القصيدة جملة واحدة مقاطع مكررة وصورا مضغوطة وكلاما..
ف” كل الذي كتبت، أو شطبت
لما يفك بعد عقدة اللسان”.
وهى جملة اللسان التي تحتضر في الحلق الجاف وهي جملة حادة وقاسية لا ليونة لها:
” يبهرني الجمال، مثلما يرعبني”.
والجمالية الشعرية تبدو لست مشروعة في هذه القصيدة/الحكي
” فاجأني سؤالي الوديع:
– لماذا لا أكتب (بيت شعر) في الذي
حقيقة يعجبني؟
جميع هذه الاشياء لا تهمني! “.
وتضيق وتضيع هذه التجربة بين الأسئلة الوديعة والاجوبة اللائية في أجواء استشفافية: يقظة نومية، أزمنة خوفية. . الخ.
” من بعد ما نسوا. …لكنتهم” بدأت لكنة هذه القصيدة هجائية لا تلبس” طاقية الاخفاء” – كما يبدو للشاعر – ولا تخفى مكشوفا، ولا تعرى حقيقة فالشاعر يظهر هجاء تراجيديا، يهجو اضمحلالا ويكشف تراجيديا هذا الاضمحلال، وتبدو اللغة/لغة القصيدة قناعا فيه” طواف الشارع كصعود القمة”. وتبدو القصيدة هامشا لشارح والمتن مشروح
“اطنب غير انني
غنيت ما قد قلق فلتعريد الرياح”
” معذرة، معذرة، اطلق في العبارة
فاللفظ قد
ينحل في السكون أو
ينحل في الاشارة”.
الانشغال عن السياق
إن شغل الشاعر على المفردة وعلى المشكل الخارجي/الموضوع يشغل الشاعر وعن مستويات الدلالة للمفردة في هذا السياق، لهذا يبدو الاطناب وتبدو المباشرة مفعول التجربة الشعرية العربية الستينية في تجربة الشاعر وتصير القصيدة محمولا لموضوع هي في غنى عنه، خاصة وان سعيد المحروق نحات بارز وكشاف من نوعية ابى حيان التوحيدي في اللغة والمفردة والفونيم وقد جاء تناقض المحروق مع الحكي والحكي الشعبي تناصا فاعلا غير ان السياق المنطقي جعل القصيدة محملة بالشرح والتكرار سمتا الحكي البارزتين، وهذا السياق المنطقي لا يجعل الشاعر يقول نفسه لأنه يبدو مشغولا بالخارج، بالدلالة ومشغولا بالاتصال عن القصيدة. ومن هنا جاء قولنا ان القصيدة تعلق الشعرية على القول والشاعرية في ابهام المشكل فبدا عالم الشاعر ضيقا الى حد كاتم الصوت. فالشاعر مشغول بنفسه عن قصيدته ومشغول بقصيدته عن الشعر ومعمد للذات هذه الذات التي تظهر محصورة في عالم ضيق وتبدو مستبعدة للعالم، عالم اليومي والشفاف الذي لا شك محمل بالشعرية.
إن هذا الاستبعاد القسري استبعاد للصدق وخوف من هذا الصدق…
” اخاف من الموت سرا، وحقا..
اخاف من الظل
والموت في اللحظات الظليلة”
” لم نخف البتة. . كلنا
فكرنا مليا. . فكرنا”..
فهل يطلق الشاعر سعيد المحروق من عقاله وهو الشاعر المفرد الذي يحتاج للقراءة في سياقه؟
صحيفة العربي 1993/11/24