حكايات وذكريات – سيرة قلم 60
بدأت حكايتي مع شاعرنا الكبير محمد الشلطامي.. أو بالأحرى مع شعره الرائق الجميل في وقت مبكر من حياتي.. حينما صدرت الطبعة الأولى من كتابه: “أناشيد عن الموت والحب والحريّة” عام: 1976.. كنت وقتها طالبا بالصف الأول الثانوي.. محبا للشعر وللأدب.. متابعا كغيري لما ينشر وما يذاع من أخبار الشعراء والأدباء في بلادنا.
وكنت قبل صدور هذا الكتاب قد تعرفت على الشلطامي وشعره من خلال كتابيه: “تذاكر للجحيم” و”أنشودة الحزن العميق”.. وقد كان أهم خبر لفت انتباهي في تلك السنة.. كقارئ مبتدئ ومحب للشعراء والأدباء.. هو صدور كتابه الجديد المشار إليه وسحبه من المكتبات سريعا.
أنتشر الخبر سريعا في الأوساط الثقافية وفي بنغازي كلها.. التي كانت لا تزال تتكئ على بقايا موروثها الثقافي حينما كانت بالفعل عاصمة الثقافة في بلادنا في فترة الستينيات.. أي قبل صدور هذا الكتاب بسنوات معدودة.
استهواني وشدني هذا الكتاب لثلاثة أسباب.. أولها عنوانه الخطير والملفت للنظر.. وثانيها سحبه من المكتبات ومنعه من التداول.. وثالثها.. ما شاهدته من ندم وحسرة لدى بعض المثقفين في مدينتنا.. لعدم حصولهم على نسخة منه.
في ظل تلك الظروف المشحونة في ذلك الوقت.. تضامنت كغيري من المثقفين مع صاحب أناشيد الموت والحب والحريّة.. واعتبرت نفسي واحدا منهم.. وطفقت أركض في بنغازي بحثا عن نسخة من كتابه الممنوع.. إلى أن وجدتها عند أحد الأصدقاء.. فأعارها لي بعد إلحاح شديد ليوم واحد فقط.. واشترط علي ضرورة إعادتها إليه صباح اليوم التالي.. قبلت شرطه وذهبت إلى بيتي على عجل واعتكفت تلك الليلة لساعات طوال.. حتى انتهيت من نسخه بخط اليد – لا تزال تلك النسخة اليدوية موجودة عندي – وفي الصباح ذهبت إلى صديقي وسلمته الكتاب.
وقتها لم يكن يدر بخلدي أنه وبعد ربع قرن من الزمان.. سوف يزورني الشلطامي في بيتي حاملا معه كتابه الممنوع مع مجموعة أخرى من كتبه كهدية قيمة منه – سأعود لاحقا لذكر سبب زيارته تلك بشيء من التفصيل.
تذكرت – وأنا اتصفح الكتاب – تلك الأيام التي كنت أركض خلالها في شوارع مدينتنا بحثا عنه.. وتذكرت أيضا شرط صاحبي بضرورة إحضاره صباحا.. فشكرت الله من الأعماق.. ثم شكرت شاعرنا الكبير على طيبته وتواضعه وحسن خلقه.. حينما قرأت ما كتبه على الصفحة الأولى:
(أخي الحبيب / سعيد العريبي..
أقدم لك هذه النسخة.. آملا أن أوافيك بالجديد مستقبلا).
المخلص/ محمد الشلطامي/ 2001.03.06.
الشلطامي شاعر الوطن.. بلا منازع
حلم محمد الشلطامي من أجلنا.. وتعذب من أجلنا.. ودعانا لنرافقه.. إلى نهاية دربه الطويل.. إلى حيث الشمس والفضاء والضوء المتعالي.. لكننا تخلينا عنه بجحودنا المعهود.. ولم ينس منذ البداية أن يخصص من قلبه مكانا خاليا لكل من يرغب في مرافقته.
أنا راحل للشمس أركض.. مركبي قلبي
وضوء النجمة المتعالي
ماذا يضير الناس.. لو رحلوا معي
ما زال في قلبي مكان خالِ
فلماذا تخلينا عنه ولم نرافقه ونكون إلى جانبه.. وهو كما عرفناه شاعر الوطن بلا منازع.. لا يخلو ذكر الوطن من قصيدة واحدة من قصائده.. كل أشعاره وأفكاره سمفونيات وطنية.. مفعمة بحب غامر للوطن وأهله من وجد منهم ومن سيوجد أيضا.
وطنــي
يا رجفة الموال في ليل القرى
يا حبيبي الأسود العينين.. لو أن الثرى
أحرفا كنت القصيدة
لقد كانت وجهته غير وجهتنا.. وأحلامه الوقورة غير أحلامنا.. فلم يرافقه أحد منا ولو لساعة واحدة.. أعني أننا تخلينا عنه.. وتخلى هو أيضا عنا.. فعاش مع أفكاره وأشعاره وحيدا.. ورحل معها وانزوى – في داره – وحيدا.. لربع قرن أو يزيد من العزلة التامة.. إلى أن لقي وجه ربه الكريم يرحمه الله تعالى برحمته الواسعة.
وطنــي
يا أيها الطير الجريح
أشتاق أن يرتاح في طينك جسمي
كم أنا أطعم للنيران في صحرائك الحلوة اسمي