«قلب الحكماء في بيت النّوح، وقلب الجُهّال في بيت الفرح» العهد القديم ـ سِفر الجامعة (7:4)
2- فارس التنوير
أمين مازن هو الحكيم المرجعي، الذي لعب دوراً تنويريّاً، في واقع ليبيا ما بعد الاستقلال، ليلقّن الأجيال درساً في معنى الوطن، وحبّ الوطن، وقيمة الوطن، كمنازلَ سموّ، في معراج تجربته الثرية…
إنه الإنسان الذي نصّب نفسه سادناً على حرمة المفهوم، في أبجدية حَرَمٍ هو الوطن، ليقف من الواقع موقفاً نقديّاً، منذ نهايات خمسينيات القرن الفاني، في زمنٍ هشٍّ وجودياً، لحداثة العهد بحريةٍ وليدةٍ، لم يكن لتستو في صيغة خلاص، لأن نزيف الإغتراب الطويل؛ بالإكتواء بجحيم استبعاد القرون، أقوى حجّةً في كتم أنفاس الإحساس بخلاصٍ، مترجمٍ في حرف الميلاد الثاني، ومن الطبيعي أن يعاني ضياعاً وجيعاً، في واقعٍ تتنزّل فيه قارعة قيامية في حجم الحرية، التي تحتاج لوصيّ، بوسعه أن يلعب دور الترجمان، لفحوى هذه المفردة المنيعة، المشفوعة بروح السحر، بقدر ما هي مجبولة بروح الشعر، لتغدو مسئولية الوصيّ، على وجودٍ من هذا القبيل، أخلاقية، قبل أن تستعير أبعاداً وطنية، في مرحلة حرجة، خضع فيها الوطن، كمفهومٍ كينوني، للبلبَلة، الناجمة عن الحضور في مأزق، مستحدَث بفعل زلزلة هي: الحرية. الحرية كهبة فجاءة، لا تعدم أن تنقلب كابوساً، في حال لم نعِ حقيقتها، ولم نفعل ما يجب لكي نستثمر سطوتها. وهو ما استدعى وجود قرون استشعار، لاستجلاء أدغال هذه الغنيمة، لكي لا تبقى أسيرة المفهوم النفعي، ولكن كي تسمو بحجّتها، بالتحوّل قيمةً، وهو الدور الرسالي، الذي تبوّأه أمين مازن لا نصّاً وحسب، ولكن شخصاً أيضاً. لا بإدمان تعاطي الموقف النقدي على مستوى الفكر السياسي أو الإبداعي وحسب، ولكن باعتماد حجّة الموقف من الوجود، الذي سيعني الموقف من إنسانٍ حضري، أي اجتماعي، أي أُمّي، في سواده الأعظم، فلا يعترف بغير منطوق المنطق الحرفي ديناً. وهو الدور الذي يستدعي وجود العنصر التنويري، الذي لا يبطل بسلطة المرحلة، ولكنه يستعير، بالقَدمة، منزلة الرسالة. فما أشبه الليلة بالبارحة، بل وما قبل البارحة، في تجربة سادنٍ عريقٍ في مقام أمين مازن، الذي لم تخذله لا الإرادة، ولا روح التضحية، ولا نزيف الزمن الضائع، في مراحل عصيّة، ولكن ما خذله هو: الإنحطاط في روح إنسان المرحلة، ممّا يستنزل، في السادن، هوية القربان؛ المحكوم لا بالمهلة الوقتية، ولكن بأمد الأبدية. أي أنه، بعد الآن، يتنكّب صليب الشهيد، الشهيد قيد الحياة؛ لأن التجربة هي التي علّمت الأجيال أن إنكار الإحسان، الشائع في رحاب كل مجتمعٍ حضري، موبوءٍ بروح النفع، مكبّلٍ بأغلال سلطة، تغتصب خلافة الله على الأرض، هي التي قضت على الإنسان النزيه أن يدفع ثمن نزاهته، بأن يقبل بقدر الشهيد، في واقعٍ تغترب فيه الحقيقة، في زمنٍ يهيمن على الوجود شبح الباطل، لأحظى، في صياغة المفاهيم، بالحضور في حضرة هذا الإنسان، في ذروة نشاطه الريادي، في الصحافة الوطنية، مجبولاً بروح أمّة، مفطورة بعفوية هجرية، لأن هوية تسعين بالمائة من مواطنيها سليلة تقاليد صحراوية، مما يعني أنها طينة حرية، ليرث مازن هذه الطينة، في كل درسه التنويري، المحرّض على القيم الأخلاقية، المستعارة من ناموس الأمّة البريّة، في جنوب وطنٍ، يعتنق في غالبيّته العظمى، دين صحراء كبرى هي ليبيا: ليبيا الأسطورية، التي نصّبها عرّاب تاريخ ما قبل التاريخ هيرودوت إماماً في معجم الحضارة، ليكون لها شرف الأولوية في التأثير على حضارة الإغريق، ليستعيروا من مستودعها السخيّ كل عناصر مجدها الأسطوري، لتستحقّ ليبيا لقب مسقط رأس التكوين عن جدارة، كانت كافية كي تكون حجر الزاوية في مشروع مريدنا التنويري، في واقعٍ بدأ يعي معنى أن يولد الإنسان من رحم عدمٍ هو الاستعمار، ليحقق لنفسه بعثاً من شهادة وفاة، وأمثال مازن وحدهم فرسان الواقع المخوّلين برسم خرائط النجاة.
من الطبيعي، في مناخٍ كهذا، أن يكون الحلم هو قاسمنا المشترك الأعظم، كجيلٍ يهفو لخلاص: المناخ الذي بدأت تتفتّح فيه أزهار الميلاد الثاني، بالخروج من ديجور اغتراب الدهور، متزامناً مع ثمار استغلال ثروات البلاد الطبيعية، ومطلع البحبوحة الاقتصادية، بإنفاق الدولة على قطاع الثقافة، لنكون شهوداً على أول تجمّع لمحفل الطليعة، المتمثّل في انعقاد أول مؤتمر لأدباء الوطن، ليعقبه مؤتمر الأدباء المغاربة مع نهايات ستّينيات قرنٍ حافلٍ بحملات تغيير، معنوَنٍ برأسمالٍ مُهيبٍ هو: الحرية!
من الطبيعي أيضاً أن يكون الحاضن لتعارفنا هو الحاضرة، بوساطة السفير، الذي لعب آنذاك دور المنتدى الأدبي، الجامع لمريدي الإبداع بكل صنوفه وهو: المقاهي، لأكتشف في صاحب النصّ الصارم في معالجاته النقدية، واحةً تفيض حبّاً على مستوى علاقاته الإجتماعية، ومواقفه الشخصيّة جديرة بتبوّء ما يسمّيه أفلاطون منزلة «الأنا الثانية»، كناية عن الصديق، هو في الواقع ضربٌ من عهدٍ، استغرق ما يربو على الستّة عقود، ليتوّج مراراً بمواقف وجودية، تصلح وصايا في ذخيرة جيلٍ بديل، ولكنه ضائع، بحكم اغترابه عن ثروة ينابيع من هذا القبيل. فعقب تجربة 1969 في التغيير، بدأتُ نشر أول كتبي وهو «ثورات الصحراء الكبرى» مسلسلاً في الصحافة الوطنية، في وقتٍ تزامن مع تعيين أمين مازن رئيساً عامّاً لهيأة النشر والمطبوعات، التي تتولّى صلاحيات وزارة الأعلام والثقافة، وتخضع لسلطتها كل المطبوعات، لتستفزّ الدراسة أولياء أمر النظام السياسي في مطلع عهدهم بالسلطة، ليأمروا بإيقاف نشرها، ولم يكن ليخطر على بال هؤلاء أن يجرؤ مخلوقٌ على الاستهتار بشأن أوامرهم. فإذا بهم يواجهون تحدياً حقيقياً، من إنسانٍ يحسبون أنفسهم أولياء نعمته، وإذا به يرفض تنفيذ هذه الأوامر، بحجّة لا وجود لها في ناموسهم وهي: حرية التعبير!
وبالطبع، لم يكن له أن يتراجع عن موقفه رغم أنف كل الضغوط، لأنه لم يكن في يقينه نزوة، أو شطحة، أو طلباً لبطولة، ولكنه تعبيرٌ عن إيمانٍ بتلك القضية، التي لم يحدث أن أفسد لها الخلاف في الرأي طينة، كما يروقه أن يتغنّى دوماً، مترجماً بذلك حقيقة رائدة، وهي: أن الخلاف في الرأي ليس معارضة، كما يروق المعجم السياسي أن يزعم، كما أن المعارضة ليست عداوة، كما تتبنّاها الأنظمة السياسية لتبرّر جورها.
وها هي تبرهن على جبنها هنا أيضاً، فتأمر بعزل الرجل عن منصبه انتقاماً، ولا تدري أنها استنزلت في حقّه وساماً تاريخياً بموجب المرسوم الذي لا يختلف في طينته عن قدر الشهيد، الذي تغنّى به أمير الشعراء أحمد شوقي، في مرثيّة أمير الشهداء عمر المختار: «إن البطولة أن تموت من الظمأ، ليس البطولة أن تعبّ الماء».
فترويض النفس على الحظر هو طبيعة أدمن تزكيتها عقل الإنسان الحضري، لأن القبول بالحضور في حيّزٍ محصور، وحده تعميمٌ لنزعة الحظر، المستعارة حرفياً من الحصر. ومن حقّ الرجل، الذي أقبل من واقع الصحراء، أن يسفّه هذا الافيون الحضري، بسلطان الوجدان الهجري، لأنه ملفّقٌ بالطبيعة من طينة حرية.
وها هو يبرهن مرة أخرى على القيمة في هذا اليقين عندما جاهر برفضه لقرار مصادرة كتابي الثاني وهو: «نقد ندوة الفكر الثوري»، كإجراء أحمق في حقّ متنٍ من شأنه أن يعمل على تخليد ندوة مرجعية في تاريخ الحركة الثقافية الجديدة، ولم يفلح في إيقاف القرار، لأنه صدر بعد صدور القرار القاضي بتجريده من منصبه!
فهل هو انتصارٌ لرؤية مبدئية لظاهرة عصيّة كالوجود، أم هو مجرد تحزّب في حقّ صديق؟
الواقع يفتي بعدم وجود فرق عندما نحكّم قدس أقداسٍ كالواجب. الواجب كموقف أخلاقي هو الذي دفع الرجل لأن يشجّعني على الهجرة عندما هيمن كابوس الإضطهاد في حقّي، لأحلّ ضيفاً على عالم ماوراء الستار الحديدي، في زمنٍ مازال فيه شبح بعبع في مقام ستالين يخيّم على واقع الاتّحاد السوفييتي، دون أن أدري أن ذاك الرحيل سيكون عتبة في معراج منفى بلا عودة، اللهم إلّا زيارات موسمية، لمعبودٍ هو الوطن، الذي لا يتحوّل قيمةً إلّا بوجود رموز أمثال أمين مازن في رحابه، لأحظى بلقائه في أول زيارة، تزامنت مع خروجه من معتقل استغرق ما يربو على العام، سداداً لدينٍ، صار عرفاً في دساتير كل المغامرات الطائشة، التي اعتدنا أن نسمّيها ثورات. ألم يُنشد هنري ثورو منذ مائتي عام الوصيّة القائلة: «المكان الوحيد المناسب للإنسان النزيه في عالمنا هو السجن؟».
فالرهان دوماً على الجواد الذي لا يخسر، حتّى وإن خسر، قد يخسر بالخسارة الغنيمة، ولكنه يكسب، بالخسارة، أو ما نراه خسارةً، القيمة، تيمّناً بسيرة سلفه في نموذج البطولة عمر المختار، الذي سأله السفّاح غراتسياني عندما اعتقله: «هل تتوّهم أنّك ستهزمني بعتادك البدائي هذا؟»، فأجاب البطل، كما يليق بكل البطل: «أدري أنّي لن أنتصر، ولكن قدري أن أحاربك، لا طمعاً في نصر، ولكن تأديةً لواجب!».
أمين مازن أيضاً احترف دين الواجب، الذي نصّبه عمانويل كانط قريناً للسعادة، وضحّى بحطام الدنيا، لأنها باطل أباطيل، في مقابل الأنتصار لنداء الربوبية، المترجَم في حرف الضمير. فالإنسان، بتعبير همنغواي، يمكن أن يُقتَل، ولكن لا يجب أن يُهزَم! وهو لا يُهزَم إلّا باستهتاره بما يزكّيه السواد الأعظم كغنيمة، كلُقية، ليبلغ ذروة السطوة، في الهوس بالسلطة. السلطة، في المعادلة، هي الحرف الذي يُميت، ولكن التجربة برهنت أن روح الخلود إنّما تكمن في التشبّث بتلابيب العدم؛ لأن البطولة، في أبعادها القصوى، طلاقٌ مع ناموس الحسّ، واعتناقٌ لدينِ الحدَس!
أوَ ليس جحوداً تراجيدياً أن يحيا الحكيم في واقعٍ تغترب فيه حكمة الإعتراف بالإحسان، حاملاً في الروح جنين حبٍّ، كما يليق بكاهن خلاص؟
فهو يستعير هنا روح «كانتون الأكبر» حكيم الامبراطورية الروماني، الملقّب بـ«الرقيب»، لينصّب نفسه حَكَمَاً على القيم الأخلاقية لأبناء الرعية، أو يستعير خصال شيشَرون في مواجهة يوليوس قيصر، فيترافع عن عدوّ الامبراطورية، انتصاراً للحقيقة، أو يستعير روح أبي ذرّ الغفاري، ليتحوّل نموذج زهدٍ، حقّ للشاعر أن يتغنّى في حقّه: «مازالت شورى التجّارِ ترى عثمان خليفتها، وتراك زعيم السوقيّة، لو جئت اليوم، لحاربك الداعون إليكَ، وسمّوك شيوعيّة»…
أو يتنكّر في مسوح حنش الصنعاني، في موقفه من الخليفة عبد الملك بن مروان، عندما اعتقله لانضمامه إلى حزب عبد الله بن الزبير، ليستفهم منه عن السبب، برغم أنه هو من تنبّأ له بالخلافة يوماً: «لقد انحزتُ لحزب ابن الزبير، لأني اكتشفتُ أنك تريد المُلك، والزبير يريد الله، فاخترتُ الله».
أي أن يفعل كل ما يليق بالإنسان، الذي ارتضى أن يحيا قدر الشهيد قيد الحياة.
هذا هو شاهد عيان الواقع؛ الذي لم يكن ليتبوّأ منزلة فارس الواقع، لو لم يكن فارس واقع الزمن الضائع، الذي تلاحقت فيه أشباح أنظمة الباطل، وهيمنت في حرفه أطياف الجيل الخائب، وتتابعت في مسرحه أدوار الهواة من كل هوية، ومن كل هوى، ليطوي الجلّاد، المدعو زمناً، حوليّات الأنام، ليحتلّ الخلَف موقع السلف، لتزداد ظلمات الاغتراب، في واقع الشهيد، كثافةً، دون أن يفلح فرمان الخلود في تصحيح وضع الوجود، في تجربة إنسانٍ، لم يعوّل يوماً على استرداد فردوسه المفقود.