الأربعاء, 26 مارس 2025
متابعات

سيرة محيي الدين فكيني في مئويته الأولى

محاضرة بعنوان (محيي الدين فكيني 1925-2025 مائة عام من العزلة)

وسط أزقة المدينة القديمة طرابلس، حيث تلتقي ظلال التاريخ بأصداء الحاضر، أعاد الكاتب والباحث حسين المزداوي إحياء سيرة أحد أبرز رجالات الدولة في ليبيا إبّان العهد الملكي، محيي الدين فكيني، بمناسبة مئويته الأولى بحضور لافت في فضاء محمود بي (محيي الدين فكيني 1925-2025 مائة عام من العزلة)، وبين جدران تحمل بصمات عصور مضت، لم تكن المحاضرة التي قدمها وأدارها الباحث الشاب محمود علي مجرد استعراض لمسيرة سياسية بقدر ما كانت محاولة لفهم خصائص شخصية جمعت بين الطموح السياسي والانسحاب إلى العزلة، بين دبلوماسية القانون وصراعات الواقع. ضمن الفعاليات الثقافية للموسم الرمضاني ليالي المدينة القديمة – أيام الخير 2025، مساء يوم السبت 22 مارس الجاري.

نشأة محيي الدين فكيني في كنف والده محمد فكيني
انطلق المزداوي في عرضه عن الجذور العائلية لمحيي الدين فكيني، مشيرًا إلى الدور الذي لعبه والده، المجاهد الشيخ محمد فكيني، في رسم ملامح حياته المبكرة. كان محمد فكيني شخصية نافذة في مجتمعه، اتسم بحضور قوي، ومكانة اجتماعية مرموقة. تزوج عدة مرات، وأنجب عددًا من الأبناء، كان أصغرهم محيي الدين، المولود عام 1925.تنقل محمد فكيني بين عدة مناطق داخل ليبيا وخارجها، فكان له موطئ قدم في طرابلس والرجبان، كما أقام لفترة في الجزائر وتونس خلال فترات الاضطراب السياسي. انعكس هذا التنقل على أبنائه، الذين ورثوا عنه نزعة الانفتاح على العالم، واتساع الأفق الثقافي والسياسي. وقد استعرض المزداوي تأثير هذا التنقل على شخصية محيي الدين، حيث نشأ بين بيئات مختلفة، ما أكسبه قدرة على التكيف مع التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها ليبيا خلال العقود التالية.

التعليم والتكوين الثقافي: من تونس إلى باريس
مع تقدم العمر، انتقل محيي الدين فكيني إلى تونس، حيث التحق بالمدرسة الصادقية، التي كانت واحدة من أرقى المؤسسات التعليمية في تونس آنذاك. تأسست هذه المدرسة في أواخر القرن التاسع عشر على يد خير الدين التونسي، وكانت من أولى المدارس التي تبنت المناهج الحديثة، مما جعلها مفرخة للنخبة السياسية والفكرية في تونس وخارجها.كما برع فكيني في دراسته، لا سيما في اللغات، إذ تفوق في العربية والفرنسية، وكان على دراية بالإنجليزية. هذا التفوق أهّله للحصول على منحة دراسية لمواصلة تعليمه في فرنسا، حيث انتقل إلى باريس عام 1946 لدراسة القانون والعلوم السياسية في باريس، انغمس فكيني في المناخ الفكري الأوروبي، واحتك بتيارات فكرية وسياسية مختلفة. حصل على درجة الدكتوراه في القانون عام 1953، وهو إنجاز لم يكن مألوفًا لكثير من الليبيين في ذلك الوقت. كانت هذه الفترة بمثابة مرحلة تحوّل حاسمة في حياته، حيث شهدت ليبيا تغيّرات جوهرية بعد الحرب العالمية الثانية، واتضحت معالم استقلالها الوشيك.

العودة إلى ليبيا: الدور السياسي والدبلوماسي
مع نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، عاد محيي الدين فكيني إلى ليبيا، التي كانت لا تزال تمر بمخاض الاستقلال. شارك في صياغة العديد من الاتفاقيات الدولية التي شكلت الأساس القانوني لاستقلال البلاد، وكان جزءًا من الوفد الليبي الذي ناقش القضايا القانونية المتعلقة بالسيادة الليبية في المحافل الدولية.
أثبت فكيني مهارته في التفاوض، وكان له دور بارز في إلغاء المحكمة الإيطالية في ليبيا، وهي المحكمة التي كانت تمثل إحدى بقايا الاستعمار الإيطالي. كما لعب دورًا أساسيًا في إعداد الاتفاقيات الليبية مع كل من بريطانيا، الولايات المتحدة، وإيطاليا، والتي شكلت الإطار الدبلوماسي للعلاقات الليبية الدولية في تلك الفترة.
مع إعلان الاستقلال عام 1951، شغل فكيني عدة مناصب دبلوماسية رفيعة، فكان أول سفير ليبي لدى الأمم المتحدة، حيث مثل بلاده في المنظمة الدولية، وساهم في صياغة السياسة الخارجية الليبية الناشئة. كما عمل سفيرًا في واشنطن لفترة وجيزة، قبل أن يعود إلى ليبيا ليشغل مناصب حكومية مختلفة.

رئاسة الحكومة: تجربة قصيرة لكنها مؤثرة
في عام 1963، كلّف محيي الدين فكيني برئاسة الحكومة الليبية في عهد الملك إدريس السنوسي. جاءت هذه المرحلة في فترة مفصلية، إذ كانت ليبيا قد بدأت تشهد تحولات اقتصادية واجتماعية نتيجة اكتشاف النفط. حاول فكيني الدفع نحو إصلاحات سياسية وإدارية، لكنه واجه عقبات داخلية وخارجية حالت دون تحقيق مشروعه الإصلاحي بالشكل الذي أراده ثم استقال من منصبه عام 1964 بعد خلافات داخلية، ليبتعد تدريجيًا عن المشهد السياسي، ويعود إلى العمل الأكاديمي والقانوني. ورغم قصر مدة رئاسته للحكومة، إلا أنها تركت أثرًا واضحًا على الحياة السياسية في ليبيا، حيث ظل ينظر إليه كواحد من القادة الذين حاولوا إرساء أسس الدولة الحديثة.

العزلة والسنوات الأخيرة
بعد تركه الحياة السياسية، فضّل فكيني العيش في عزلة نسبية، مبتعدًا عن الأضواء، لكنه ظل متابعًا للمشهد الليبي. استقر في فرنسا لفترات طويلة، وعاد إلى ليبيا بين الحين والآخر، لكنه لم يعد لاعبًا سياسيًا نشطًا.خلال المحاضرة، تناول المزداوي هذه المرحلة من حياة فكيني، مشيرًا إلى أن العزلة لم تكن انعزالًا كاملاً، بل كانت انعكاسًا لإحباطاته السياسية وشعوره بعدم القدرة على تحقيق التغيير الذي كان يسعى إليه.

إرث فكيني في التاريخ الليبي
اختتم حسين المزداوي محاضرته بالإشارة إلى أن محيي الدين فكيني يظل شخصية جدلية في التاريخ الليبي، بين من يراه إصلاحيًا لم تسعفه الظروف، ومن يراه جزءًا من نخب سياسية لم تتمكن من مواجهة التحديات الكبرى. لكنه بلا شك يمثل جيلًا من الليبيين الذين سعوا لوضع أسس قانونية ودبلوماسية حديثة للدولة الليبية المستقلة، وبمناسبة مرور مائة عام على ميلاده، تبقى سيرة محيي الدين فكيني نموذجًا يستحق الدراسة، ليس فقط كجزء من التاريخ السياسي، بل أيضًا لفهم التحولات الكبرى التي مرت بها ليبيا خلال القرن العشرين.

مقالات ذات علاقة

مكتبة طرابلس العلمية تحتفي باليوم العالمي للكتاب

عبدالسلام الفقهي

مكتبة طرابلس تنجح في تنفيذ لقائها الثقافي وتجتاز عثرة الهيئة العامة للثقافة

المشرف العام

للمرة الأولى.. الكتاب بدون قيود في ليبيا

المشرف العام

اترك تعليق