الذكرى العاشرة لرحيل الفنان والمخرج والكاتب الليبي فتحي العريبي
نحن جميعا من دون استثناء نحب الطيور ونعشق الحمام على نحو عميق وهو احساس نابع من شوقنا الأبدي الى الحب والحرية إلى المودةِ والسلام. فالطيور تجتاز الحدود وتخرق الاجواء بسهولة ويسر ولا يعترض سبيلها سائل عن هويتها او الاوطان التي تنتمى اليها.
والدارس منا لتاريخ الانسان سوف يعلم ان هذا المخلوق السعاوي الذى هبط من الجنة واستقر به المقام في (غابة الأفاعي) قد حاول مرارا وحاول تكرارا محاكاة الطيور في طيرانها او في هجرتها عندما يتعلق الامر بالحرية.
اول محاولة بذلها الانسان في هذا الاتجاه المنصب على الطيران والفرار من سطوة حاكم طاغ وردت في احد (سيناريوهات) اساطير جزيرة (كريت) القريبة من سواحل مدينة درنة. ومقدمة هذا السيناريو تقول ان فنانا مهندسا قام بتصميم وبناء متاهة ل (مينوس) ملك هذه الجزيرة.
اما حبكة السيناريو فإنها تتحدث عن ثور خرافي اسمه (المينوتاوروس) يعيش داخل هذه المتاهة. من جهة اخرى ان المهندس الفنان نصح: (اريادنه) بان تمد: (تيسيوس) بخيط يسهل له الخروج عندما يقضى على الثور الرهيب فغضب الملك – على عادة كل الطغاة – غضبا شديدا واصدر امرا ملكيا عاجلا يقضى بزج الفنان في السجن المركزي بالجزيرة وهو احد سجون الخمس نجمات التي جرى افتتاحها عقب اعياد النبيذ.
لكن الفنان استطاع الهرب مع ولده (ايكاروس) وصنع لنفسه ولفلذة كبده اجنحة ضخمة من الريش والشمع والاغصان الرفيعة ومن دون الولوج في تفاصيل هذه الرحلة الرائدة اقول: ان طموح الفتى (ايكاروس) قد اغراه بالتمادي في مواصلة الفرار والتحليق على مقربة من قرص الشمس التي كانت لحظتها – كما تفيد الاسطورة – تسبح في غيمة صيفية. وفى وقت مفاجئ انقضت عليه كنسر خرافي وصوبت اليه وابلا من اشعتها النارية صهرت على نحو مفجع اجتحته الشمعية وهوى الولد الجميل لقمة سهلة المنال بين انياب اسماك القرش النهمة.
وفى سيناريو اخر من سيناريوهات زخم الحضارة العربية في الاندلس نقراً عن مغامر عربي. جاء في هامش هذا السيناريو ما نصه: حلو الكلمات حسن الهندام والفكر لذيذ المعشر وسيم القسمات … تقطر احلامه ببوادر الجنون … هذا الفتى الذى يقارب ايكاروس في العمر اسمه (عباس بن فرناس) كان قد قدم جمجمته بالمجان كي تتهشم على رصيف شارع (الوادي الكبير) بين اقدام الاميرات العربيات العائدات ساعتها من كوفير (ابن حزم).. وفى سيناريو عصري من سيناريوهات جلبهار ممتاز) كازينو (مونت كارلو).. وذلك في اول امنية عربية للطيران بينما حقيقة المحاولة من اساسها كانت ترمى الى انقاذ ما يمكن انقاذه من مؤلفات عاطر الذهن (ابن رشد) التي جرى حرق اغلبها عقب صلاة يوم الجمعة التي تصفها كتب الفلسفة والتفسير بالجمعة الثقافية الحزينة.
وبعد نيف والف عام قامت مطربتنا المائية (فيروز) في البقاع اللبناني بتجربتها المتميزة والمسالمة في أن وشكلت من الورق ومن اسلاك صيد السمك طائرات مزخرفة واطلقتها في مهب الريح وصدحت بصوتها الملائكي بأغنية شاعت في الآونة الاخيرة على السنة فتيات الجنوب جاء في مطلعها:
طيري باطيارة طيري
بأورق وخيطان
بدى ارجع بنت ازغيرة
علسطح الجيران
الا ان القوات الإسرائيلية المرابطة ابدا في الشريط الأمني تصدت لهذه الطائرات بصواريخ من نوع (باتريوت) الامريكية الصنع ففرت (فيروزنا) كحمامة زاجلة واحتمت بالقمر وقبل ان يلحق بها (عاصي) داهمته نوبة قلبية حادة اودت بألحانه في الحال.
فاذا كانت ازمنة الهزائم العربية المتكررة بده من حرب 48 وحتى عاصفة الصحراء لا تثير شهية القراءة فأنى اقترح عليكم قراءة بديلة تعود الى عصور التجربة والتجريب ونجم تلك القراءة هو الفنان الإيطالي المتعدد الاهتمامات (ليوناردو دافنشی) من هذه الاهتمامات عنايته بمسألة الطيران، وفك رموز التحليق فقد صمم نماذج خشبية مطابقة في تكوينها الى حد ما لأجسام الطيور.. ليس هذا فحسب بل ان العزيز: (ليو) قد اغوى احد تلاميذه ليدخل التاريخ اعنى ليطير في يوم عاصف – كأمنا العربية هذه الا ان التلميذ سقط في واد سحيق وتحطمت ضلوعه اليسرى وكسرت ساقه الثمين.. فخف الفنان الكبير الى نجدة ضحيته وعالج جراحه ببعض الاصباغ الملونة وطيب خاطر والدته بحفنة (ليرات ذهبية) تم امتثل عند الظهيرة واجماً امام ضابط محضر شرطة مدينة (فلورنسا) وتعهد له في محضر الاستجواب بالا يعود ثانية لمثل هذه الألعاب القاتلة.
ثم خرج بقامته المديدة من محضر الشرطة يجر ذيول الخيبة والاحباط ووجد السيدة (جيوكندا) تنتظره عند باب المرسم. وهى تبتسم بشماتة فأوعز لها وهو يتحاشى نظراتها الساخرة ان تعد كأسين من عصير اعناب السنة الماضية فلم تستجب للأمر بسرعة وطفقت تضحك بصوت مسموع لا يعوزه غنج ودلال الايطاليات المجربات. فتقدم إليها وطوق ذراعه الطويلة حول خصرها الممتلئ واجلسها بجوار لوحة لم تكتمل وشرع يطعم الاثر الفني بمزيد من الألوان الدافئة.
حينما اكتشفت فيما بعد رسومات وتخطيطات فنان عصر النهضة، المتعلقة بطائرته البدائية استحوذت تلك التصاميم على عقول والباب العلماء والمغامرين على حد سواء ومهدت الفضاءات كي يطير الانسان طيرانا حقيقيا لاريب فيه وذلك في اول طائرة من تركيب الاخوين رأيت لمدة وجيزة لا تكفى باي حال من الاحوال لإشعال النار في غليون الشاعر السريالي (ادونيس) لكنها مدة قلبت ارجاء السموات رأساً على عقب وقربت المسافات وهيأت الظروف لتلتهمنا حرب النجوم بين لحظة واخرى.
الا انه وبرغم التطور الهائل في الطائرات التي انهالت بحمولتها المدمرة والتي فاقت كميتها حدود التصور على ام المدائن – بغداد – واغتالت غسمن ما اغتالت حبيبتي الهيفاء (نادية يونس) المحررة التشكيلية بصحيفة. القادسية. وايضا حبيبي اللماح رسام الكاريكاتور (وليد ناسف) وكذلك مبدع المشاهد الضوئية المتأنقة المصور الفنان. (فؤاد شاكر) وغيرهم من الاحبة والحبيبات.
فان اهم طائرة في مجال مناهضة المحتلين وقراصنة الاوطان هي طائرة عملية (قبية) التي قزمت بجراتها واندفاعها فوق جناح الريح اعلى الطائرات الفتاكة والرادارات التي ترصد خفقات قلوب العاشقين في دير الزور او نجع حمادي وايضا في مراعى الوادي الحى.
لان طائرة عملية ((قبية)) او طائرة عباس بن فرناس كما يحلو للشاعرة الكويتية. سعاد الصباح: تسميتها بهذا الاسم الشفاف هذه الطائرة – والكلام الموالي ليس للعزيزة سعاد – قد استطاعت ان توقد لهيب الغضب في الارض المحتلة وتعجل في ذات الليلة بثورة الحجارة التي امتد مرماها الفعلي من البحر الى النهر ومن الصحوة الى الشهادة.
بعد هذا وبعد ذاك وفى انتظار المتوقع وغير المحتمل فان الانسان كل مكان ما يزال منبهرا بالطير المسخرات في جو السماء ومازال ايضا يركن الى عصافيره يعد لها الأقفاص البديعة ويمضى بجواره الساعات الطويلة مستمتعا بشدوها وجمالها.
الا ان الحمام عبر كل الأزمنة وكل العصور قد انفرد من دون سائر الطيور بوضع متميز ومفرد فضلا الحياة مع الناس من غير اقفاص مغلقة ينعم بحريته وسلامه ويشبع في بنى البشر رغبتهم الخفية في حبهم للطيور.
فنحن جميعا – انت وانت سالى وغازى هند وانا – نحب الطيور ونعشق الحمام على نحو عميق وهو احساس نابع من شوقنا الأبدي الى الحب والحرية الى سلام الله ورحمته وبركاته.
مجلة لا | السنة الأولى، العدد الخامس، 1/5/1991م