أصدرت القاصة أسماء القرقني مجموعتها الأولى بعنوان (عندما تتداعى الأشياء)(1) عن دار جين للطباعة والنشر والتوزيع، اشتملت على ثمانية وثلاثين قصة قصيرة تباينت مضامين مواضيعها الاجتماعية وطول أنفاسها السردية وتقنياتها الفنية ومكونات البنية اللغوية لجميع عتباتها الأولى بشكل ملحوظ.
ولقد ولدت جميع قصص مجموعة (عندما تتداعى الأشياء) خلال أربعة سنوات، بداية من قصة (دروب مغلقة)(2) المؤرخة في 17 نوفمبر 2019م التي أبانت عن صور الحداثة في الكتابة القصصية لدى أسماء القرقني من خلال تعامل السارد بطل القصة مع موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك ونسجه علاقة مع فتاة تعرف عليها من عنوان صفحتها (دروب مغلقة) ثم التقاها شخصياً فصدمته إعاقتها الصحية الجسدية وبدلت إيمانه بأهمية الروح دون الجسد فكانت نهايتها حزينة صادمة، وحتى قصة (أمر واقع)(3) المؤرخة في 2 يوليو 2023م التي نقلت الساردة حكايتها وهي تخوض تجربة الإنجاب وسط ظروف نفسية صعبة وأسرية حرجة ومخاوف من وفاة أو تشوهات خلقية لمواليدها.
وتكمن أهمية التواريخ المسجلة في نهاية كل قصة بأنها تتيح فرصة للنقاد لمتابعة مدى مواكبة موضوعات القاصة للمعطيات الاجتماعية وتغيراتها، وتعمق طرحها وبلورتها في قالب قصصي، وكذلك تحليل وتأمل تطور نفسها السردي وتنوع أشكالها وأدواتها الفنية القصصية أو الإبقاء عليها في نسق ثابت لخلق هوية خاصة مميزة لأسلوبها التعبيري.
وعند تصفح هذه المجموعة ومعاينة تضاريسها الخارجية من خلال فهرسها نكتشف أن عدد عتبات القصص التي تكونت من مفردة واحدة شكلت نسبة 42% وبلغت ستة عشرة قصة تسلسلت كالتالي (اللوحة، هزيمة، محنة، الكنز، الساقية، الصورة، لبلاب، التكليلة، فريدة، وهم، وجع، الكرسي، عاصفة، خريف، بدور، بيتنا)، بينما العتبات التي تكونت من مفردتين كانت بنسبة 34% وبلغت ثلاثة عشرة قصة هي (أحمر شفاه، دروب مغلقة، لحظة ثقة، أبلة فتحية، من الذاكرة، أمر واقع، عنوان خاطيء، ما تبقى، أجراس الخطر، جناح مكسور، التقيته هناك، في ضيافتها، لستُ أنا)، أما العتبات المتكونة من ثلاثة مفردات فقد كانت بنسبة 21% وبلغت ثمانية وهي (عندما تتداعى الأشياء، أبحثُ عن ابتسامة، الدم مغطي العيب، انتحار يوم آخر، طائر الماوث مان، نزف في الذاكرة، حقيقة ما حدث، شيء في صدري). وجاءت عتبة واحدة يتيمة في أربعة كلمات هي (أحداثيات يوم في الحجر) ومثلت نسبة 3% تقريباً.
وقراءة هذه النسب المئوية البسيطة توفر مؤشرات إحصائية توضح أن البنية التركيبية لمعظم عناوين القصص بالمجموعة جاءت أحادية الكلمة، مقتصرة على مفردة واحدة نالت النسبة الأعلى 42%، وفي ذلك إشارة إلى أن القاصة ابتعدت عن تشتيت ذهن القاريء واختارت له عناوين فردية مركزة، تظهر كهياكل بنائية متماسكة لا تقبل التجزئة، ذات إيقاع ورنين موسيقي جذاب، مما يجعلها تترسخ بسرعة في عقله، ويصبح من السهل توطينها في ذهنه واستذكارها والعيش مع شخصيات أحداثها ومضامينها لفترات طوال. كما تظهر هذه العناوين المفردة من الناحية الشكلية السيميائية كتلة موحدة كيافطة إعلانية قصيرة براقة مبهرة، واضحة للعين، وسهلة التعرف عليها وتأملها بعناية تحفز القاريء لخوض مغامرة الغوص لاكتشاف تفاصيلها السردية تدريجياً.
طالع أيضًا: أسماء القرقني: كنت شغوفة بالروايات أكثر، لم أتجه للقصة القصيرة إلا مؤخراً!!!
أما عنوان المجموعة بأكملها (عندما تتداعى الأشياء) الذي جاء ثلاثي التركيب، فنلاحظ أن القاصة اقتبسته من إحدى القصص بداخلها، بل حتى عنوان تلك القصة ذاته جاء مقتبساً من اسم رواية أدبية يطالعها البطل في متن القصة على شاطيء البحر في تداخل وتشابك خيالي جميل صنعته القاصة بكل براعة، يؤكد قدرتها على نسج أخيلة متعددة تتشكل في كيانٍ نصٍّي موحدٍ، وهو ما يبعث الكثير من التشبيك والتشويق والجاذبية، وفي نفس الوقت يطلق العديد من الأسئلة حول دلالات هذا التداخل ومقاصده وغايات توظيفه في ثنايا النص القصصي. كما أن الاختيار المتنوع في العتبات القصصية بين العددي والظاهري والداخلي بالمجموعة يمنح فن القصِّ عند أسماء القرقني ترابطاً دلالياً لافتاً، ويثير تخمينات لا حد لها حول مغزى هذه الاختيارات العنوانية، وما هي الاستراتيجية التي تتبعها في عنونة قصصها، وهل تتقصد تحديد وظائف عناوينها وتضمينها إشاراتٍ معينة أم قامت بذلك عفوياً بلا أية ترتيبات مسبقة أو غايات إشهارية؟ وهل يأتي ذلك ربما نتيجة تخصصها التعليمي في مجال العلوم التطبيقية؟
إن ما يدفعنا إلى هذا الطرح هو التأكيد بأن العنونة بشكل عام صارت تحظى بأهمية بالغة في مناهج الدراسات الأدبية، لكونها تحظى بنصيبٍ وافرٍ من جهد المبدع فكرباً، واستراتيجيته في الإعداد والتجهيز لإصدار إبداعاته، وسعيه لاقتناص عنوان مكثف يقارب محتوى نصوصه، لكي يضمن ترسيخ أفكاره وهواجسه في الذهن، ويظهر كنصٍّ موازي يمكن فهم تركيبته عن طريق التفسير أو التحليل المتعمق في ثنايا بنيته الدلالية وأبعادها المختلفة.
وبالنسبة للمجموعات القصصية القصيرة تحديداً تعد العنونة إحدى مقومات التقنيات المهمة لكونها تعبر عن منظومة بانورامية تتعالق مع عدة نصوص مجمعة بين دفتي كتاب واحد، تتداخل وتتقاطع فيها أفكار وهواجس ورؤى وأيديولوجيات تمت صياغتها بأسلوب سردي يبرز هيكلاً نصياً قصيراً مستقلاً، يكون موازياً ومكثفاً وانعكاساً لكل تلك القصص المنفردة، يتأسس على جميع مكوناتها الدلالية الفرعية وينصهر فيها، ليصبح موحداً بكل خصائص المقومات الفنية والموضوعية. وانطلاقاً من هذا، فإن اختيار عناوين المجموعات القصصية يمثل انعطافة كبيرة في التجربة الحياتية الذاتية للمبدع، وأحاسيسه الشعورية التي تعبر عن أفكاره الفنية، من حيث أن القصة التي يقع اختياره عليها عتبةً للمجموعة القصصية بأكملها، ستكون المفتاح الذي يمسك به القاريء لولوج ما تكتنزه المجموعة من معطيات ثقافية واجتماعية ونفسيه تعكس مرحلة مخاضها وولادتها وزمنها ومظاهر كل ذلك في مضمونها ورسالتها.
فعندما يفكر القاص في وضع عنوان لمجموعته القصصية فإنه يستدعي كل أنساق نصوصها وشخصياتها وأفكارها، وبؤرها المختلفة، ليراجعها ويغوص فيها بنوع من التأمل العميق لاستخلاص نصٍّ آخر يعده تعريفاً موازياً، ومعبراً شاملاً، غزير التكثيف بصورة أكبر من القصص الفردية المسرودة. وحين يصل إلى مرحلة المفاضلة في إقرار عنوان المجموعة يطرح في ذهنه العديد من الأسئلة مثل هل يكون العنوان مكتظاً بالعلامات السيميائية والإشارات والرموز والايقونات؟ وهل يمكن أن يتشارك أو يتقاطع عنوان المجموعة مع مضامين النصوص المسرودة في التعبير عن رؤيته القصصية؟ وغيرها من الأسئلة التي تؤكد بأن مهمة اختيار العنوان ليست رحلة عابرة يسيرة، بل بها الكثير من المشقة والعناء والجهد الذي يستحق الدراسة والتأمل للخروج باستنتاجات تثري التفاعل مع إبداعاته.
وفي هذه المجموعة (عندما تتداعى الأشياء) نجد القاصة أسماء القرقني قد اعتمدت هذ العبارة الثلاثية التركيب واستقرت عليها عنواناً لها، ربما لأنه عنوان مفتوح يتسع براحه الدلالي للعديد من التأويلات، ويمكن أن تتلبس بنيته الظاهرة كل ّنصٍّ بالمجموعة لتعبر عنه وتحمل بعضاً من أنفاسه وعبق مضمونه الداخلي ومحتواه العام، وأيضاً لديه القدرة على إثارة كمٍّ من التساؤت الفكرية حول أبعاده أو رمزيته أو ذاتيته في المجموعة وكذلك بالنسبة للقاصة نفسها. إضافة إلى ذلك، لابد أن يكتسي، وفق معايير اختيارها، نوعاً من جاذبية الغواية الفنية الظاهرية التي تحمل التشويق على تحفيز القاريء لاختياره واكتشاف موضوع متنه وما وراءه، وكل هذه الخصائص تمثل جوانب فنية مهمة من عناصر الشكلية الإيحائية التي تتطلبها استراتيجية اختيار العتبات الأولى في المجموعة القصصية.
أما الخصائص العامة لمضامين القصة لدى أسماء القرقني فإنها لا تختلف عن غيرها من القاصات الليبيات والعربيات، التي تؤكد انتماءها للاتجاه الواقعي في التعبير عن همومها الشخصية والبوح بانشغالات الذات الأنثوية المرهفة، وإبراز مخزون العاطفة والأحاسيس الشعورية الرقيقة التي تكتنزها في أعماقها، والرؤى الفكرية التي يعج بها عقلها، وتوثيق الذكريات والمواقف الفارقة الخاصة بها، وذلك بالتقاطها من الروتين اليومي المعتاد للحياة ونفض الغبار عنها وتأثيتها فنياً، وتسجيل الانطباعات حول المشاهد والشخصيات وما يحيط بها من عناصر وأحداث.
وبلا شك فإن ما يميز هذه الجوانب لدى أسماء القرقني عن غيرها هو خصوصية المكان والأشخاص والأسلوب القصصي لديها الذي يمثل بصمة الهوية لكتاباتها، إضافة إلى عنصر الزمان الذي تسجل فيه كل ذلك بما يحمله من تفاوت وفروق بين أزمنة أخرى لدى كاتبات غيرها، ومن الشواهد على هذا القول نجد أن قصتها (الساقية)(4) تمثل وفاءً يوثق لأحد أهم المعالم المكانية والتاريخية بمدينة درنة الزاهرة، وهي الساقية التي صممها الإيطاليون كقنوات للمياه تسقى بيوت الأهالي وأراضي ومزارع المدينة، فاستحضرتها القاصة وأسكنتها هذه المجموعة القصصية بعد أن أضفت عليها الكثير من عبق أنفاسها وخيالاتها وحوّلتها من معلم مكاني صامت، وتاريخي مجرد، إلى مضمونٍ متحرك يتدفق بالمعاني والدلالات، وفضاءٍ لسرد الحكايات، ومسرحٍ لأحداثها التي توطن بها قيماً إنسانية مهمة في العلاقات الأخوية الوطيدة مع الجيران، مثلما نلمسه في حوار الحاجة مع ابنتها وهي تخاطبها (جارة عمري بحاجتي، ليس لدي وقت للنوم)(5).
وكذلك قصتها (التكليلة)(6) التي صورت العلاقة الخاصة مع الجدة فوصفت سنوات عمرها ونوع ملابسها وخطوط وشمها وغيرها من التفاصيل الدقيقة التي جمعت بين ملامح الجسد وأنواع الألبسة (تتوكأ على عكاز خشبي يئن تحت ثقل سنواتها التي تناهز الثمانين. الشيخوخة وما فعله الزمن لم تقف حائلاً أمام حرصها على أناقتها وارتداءها بدلة عربية كاملة لا ينقص منها شيء، ثوب من الشيفون فوقه رداء حرير في الأغلب تفضله باللون الأخضر، يتناسق مع لون وشمها المطبوع على ذقنها وبين حاجبيها تعقص محرمة الرداء على مقدمة رأسها بطريقة جميلة تليق بها، يفوح منها عبير العنبر والمسك الدرناوي ورائحة الجدات الحميمة.)(7)
طالع أيضًا: عندما تتداعى أشياء أسماء القرقني
ولم تتوقف (التكليلة) عند الوصف فحسب بل رجعت بالفضاء الزمني للقص إلى التاريخ الماضوي واسترجعت منه أثراً باقياً وصدى دلالات ومعاني القول الشعبي (السيل له جره)(8) كأحد المأثورات الشعبية الدالة عليه والباقية شاهدة على طبيعته الاجتماعية، وسيرة الجدة التي تماهت في زمنها حين قلَّبت بعض صفحاته فاستعادت من خلالها ذكريات ومأثورات وأغاني شعبية ازدانت بها القصة (ما خسارة فيه التكليلة ….. سمح الزول بوعين كحيلة)(9)، ولا شك بأن كل هذه الاستدعاءات التراثية توثق لمرحلة زمنية في بلادنا بجميع مكوناتها الثقافية.
أما قصة (أبلة فتحية) التي عرضت التباينات واختلاف اهتمامات زميلتي الساردة (صباح) و(سلمى)، وقصة (فريدة) التي استحضرت سوق الظلام وبعض ذكرياته، وقصة الفتاة المصرية (بدور) التي ضمنتها حواراً قصيراً باللهجة الاسكندرانية، وقصة (لستُ أنا) التي تعالقت مع الأغنية العربية (دارت الأيام) للمطربة أم كلثوم، يمكن اعتبارها صفحات من سيرة ذاتية عاشتها القاصة وتعاملت مع شخصياتها مباشرة، وزارت أمكنتها وسكنتها بكل المشاعر التي رسختها في ذاكرتها الشابة النشطة، وها هي الآن تستعيدها وتكتبها وتؤطرها فنياً في ثوبها القصصي الجميل.
ومن خلال استعراض وتحليل معظم قصص المجموعة نستنبط من بعضها ملاحظات تعطينا لمحة عن مقاصد الكتابة لدى القاصة أسماء القرقني، والذي يبدو واضحاً أنها تتسم غالباً بالمباشرة المتعلقة بهموم المرأة وانشغالاتها وأفكارها الشمولية بشكل عام، إضافة إلى مقاصد تسجيل هذه النصوص في الذاكرة الوطنية وفاءً للشخصيات الملتصقة بها، والأماكن التي تجولت بها وخبرت معالمها وأركانها، والأزمنة بكل وقائعها التي عاشتها القاصة، وقررت توثيقها لتكون شاهدة عليها.
وقد تأسست هذه المقاصد الإيجابية وانطلقت بدافع الرغبة والحماسة وحالة الشغف الكبيرة التي تهيمن على القاصة وعشقها للحكايات والروايات ومغامرة تسجيل المشاهد والتقاط الحوارات وبلورتها في نصوص قصصية تكتنز الكثير من المضامين المبثوثة في ثنايا عناصرها الفنية وأساليبها السردية والجماليات المتنوعة.
وختاماً فإن الرؤية الإنسانية لدى القاصة أسماء القرقني نجدها تتكشف في قصصها الممتعة المنشورة بمجموعتها الأولى (عندما تتداعى الأشياء) وذلك من خلال تسخير قلمها وفكرها وخيالها لالتقاط مشاهد إنسانية تنتمى إلى بيئتها الاجتماعية ومحيطها الجغرافي، تسعى من خلالها إلى تشكيل وعي بعالم جميل تنسجه مكتظاً بفيوض القيم والمشاعر الإنسانية، وثرياً بصور جمالية توثق فيها أمكنتها وعوالمها التي تحب، وشخصياتها التي ترتبط معها بذكريات ومواقف وأحداث عالقة بالذاكرة، ممزوجة بأخيلة رحبة خلابة، وبالتأكيد فإنه لا يمكن فصل هذا كله عن وعيها الثقافي ومخزونها المعرفي بجميع توجهاته، فالرؤى الإنسانية لديها تستمد وجودها من الإرث الفكري والثقافي والاجتماعي خاصة علاقاتها الأسرية الحميمية الدافئة التي تربت فيها على المحبة والتضحية والإيثار، وعلى رأسها علاقتها الوطيدة بجدتها التي أورثتها فن الحكي وأساليب القص والكثير من الحكايات والحكم والموروثات الشعبية التي نهلت منها الحبَّ والعشق للفن والجمال والطرب والموسيقى، بالإضافة إلى رصيد قراءتها للكثير من الآداب والقصص العربية والعالمية والروايات والأشعار التي تغذت منها المشاعر والأحاسيس العاطفية الرقيقة ومنحتها هذه الموهبة القصصية التي ستزداد تطوراً وإبداعاً في مستقبلها الواعد الذي ينتظر إسهاماتها التالية بكل شوق.
هوامش:
(1) عندما تتداعى الأشياء، قصص قصيرة، أسماء القرقني، دار جين للطباعة والنشر والتوزيع، البيضاء، ليبيا، الطبعة الأولى، 2023م
(2) المصدر السابق نفسه، ص26
(3) المصدر السابق نفسه، ص 86
(4) المصدر السابق، ص 37
(5) المصدر السابق نفسه، ص 39
(6) المصدر السابق نفسه، ص 51
(7) المصدر السابق نفسه، الصحفة نفسها
(8) المصدر السابق نفسه، الصفحة نفسها
(9) المصدر السابق نفسه، ص 53