يثير كتاب “اللابس المتلبس- من أوراق أبي الطيب المتنبي” للناقد السعودي عبد الله الغذّامي العديد من الأسئلة. صدر الكتاب عام 2024 عن المركز الثقافي العربي في الدار البيضاء، وعلى امتداد صفحاته الــ (180) صفحة تقريباً حاول الدخول إلى شعر أبي الطيب المتنبي مركزا على المدلولات الثقافية لشعره، لكنه ناقش على هامش هذه الفكرة المركزية للكتاب قضايا تتصل بالترجمة وتجربته الشخصية في ذلك، وصعوبة ترجمة الشعر، نتيجة المحمولات الثقافية المختزنة فيه، كما عبر عن معاناته كناقد في أمرين، الأول عدم استمتاعه بالشعر لأن الناقد الذي فيه يتغلب عليه، فيقضي على متعة التلقي البحت للشعر. وأما الآخر كونه ناقدا يمارس الكتابة الحرة والكتابة الأكاديمية مفضلا الأولى على الأخرى، بقوله: “ومعها [أي الكتابة الحرة] فمجرد الإمساك بالقلم والورقة يطلق المخ كما يطلق الحبر في جوف القلم، ويجري الكلام كأنه مكتوب أصلا في المخ، ويتنزّل على الورق بمجرد فتح الصنبور كما يتدفق الماء المحبوس. في حين تكون الكتابة المنهجية أكثر عسرة ووجعاً وأطول معاناة وحرقةً”.
وغير هذا وذاك ناقش مسائل تتصل بالإبداع والتلقي والجمهور والرداءة، وطبيعة الشعر العربي القائم على وحدة البيت، وأثر ذلك في صياغة المعاني والألفاظ، ومع كل هذه القضايا يرد ذكر للمتنبي كاستدعاء طبيعي، وهذا الاستدعاء والهيمنة على ذاكرة الغذّامي هو المبرر الذي أفضى بهذه الوقفات لتكون في كتاب، يخصصه صاحبه للمتنبي وشعره، على غرار ما فعل طه حسين مثلا في كتابه القيّم “مع المتنبي”، ومسامرة الغذّامي لأبي الطيب لا تختلف عن تلك المسامرة، إلا أن مسامرة طه حسين أكثر انفتاحا على عوالم المتنبي الشعرية، وأكثر منهجية وانضباطاً، وهذا ما صرح به الغذّامي، ومعتذرا به، إذ إنه ابتعد عن الكتابة الأكاديمية المنهجية في هذا الكتاب، فكتب نقدا حرّا بعيدا عن قوالب النقد الأكاديمي كما قال: “وهي حال كتابة هذه التوريقات أيضاً، وإن اختلفت الحال مع الكتابة البحثية حيث تحضر شروط البحث والمنهجية لتزاحم التدفق وتروّضه حسب الشرط البحثي”.
جاء الكتاب معبرا عن وجهة نظر الغذّامي في شعر المتنبي- تلك النظرة التي لم تسلم من الانتقاد- وربطه بالسياق الثقافي العربي العام، قديما وحديثا، فيعود بالمتنبي حيث العصر الجاهلي، ويتمدد المتنبي إلى عرب العصر الحديث عبر نسقية ثقافية متغلغلة، تجعل القارئ يحبّ المتنبي، ويستعيد أقواله، أو كما قال الغذّامي نفسه معبّراً عن هذه الحالة أن المتنبي “يكشف حالنا البشرية”. وهذا الكشف يراه القارئ على مدى 60 وقفة مع شعر المتنبي أو لقضايا ثقافية وأدبية للمتنبي فيها إشارة أو اتصال، يطلق عليها مصطلح “توريقة” بمقابل مصطلح “تغريدة”، وسبق له نشر بعضها أو كلها في جريدة الاتحاد الإماراتية وصحف ومجلات أخرى.
يبين المؤلف في المقدمة أن الكتاب جاء بعد أن كتب مجموعة من التغريدات على توتير يستعيد فيها المتنبي. لكنها على ما يبدو ليست هذه هي المنشورة على توتير التي لا تتيح سوى لـ (140) حرفا، في البداية، والأدق أن توتير لا يستوعب أكثر من (140) ضغطة على لوحة المفاتيح، كما بينتُ في دراسة سابقة، نشرت في كتاب “بلاغة الصنعة الشعرية- الفصل السابع، ص 436″، ثم تطورت لتكون (280) للحسابات غير الموثقة، أما الحسابات الموثقة فانفتح المجال فيها لأكثر من ذلك لتبلغ في آخر تحديث لها عام 2024 (10.000)، كحساب الغذّامي نفسه التي تزينه “العلامة الزرقاء”.
يأتي الكتاب ليستعيد الناقد شخصية المتنبي، بما تحمله فكرة الاستعادة ذاتها من إعادة القراءة والفهم، وكما يقرر الغذّامي فإنّ “كل استعادة هي توظيف متجدد لما تم إنجازه من قبل، لأن القراءة تفعل حالة إحياءٍ للمقروء، وأي مكتوب لن يفعل فعله إلا عبر قراءتنا له، ومن ثم فإننا نعيد استحياء المتنبي كلما ذكرنا اسمه وقرأنا نصوصه، وسيتبع ذلك أننا سنقوم بتفسير نصه حسب مهاراتنا”.
وفي هذه الاستعادات يحرص الناقد على أن يفكك شخصية المتنبي، ويكشف من خلال شعره عن أنساقه المضمرة، وعن التشظي والانشطار في شخصيته التي كانت نتاج النسق الثقافي العربي، ولذلك فإن الناقد يوظف أدواته النقدية الوثيرة لديه في “النقد الثقافي” ليكشف عن “نسقية المتنبي الثقافية” كما أنه يكشف عن نسقية الثقافة العربية بعامة، وصولا إلى نسقية المتلقي العربي في عصوره كلها، ونتيجة لهذا التحليل سيلاحظ القارئ أن للمتنبي أربع شخصيات متصارعة ضمن هذا النسق، وهي: الشاعر النسقي، والفيلسوف المقموع، والأمير المأمول، والعبقري العظيم في ثوب شحاذ عظيم.
ويعيب الغذّامي على المتنبي كونه شاعرا نسقيا خاضعا للذات التي ترى نفسها أكبر من غيرها وأهم من غيرها، فهي “الطائر المحكي والآخر الصدى”، ومن وجهة نظر الغذّامي فإن هذه الذاتية المفرطة التي وُجِدت منذ عمرو بن كلثوم، وامتدت حتى نزار قباني وأدونيس، هي التي قتلت شخصية المتنبي الفيلسوف، فتنازعته الحكمة وتسللت بين أبيات النسق الثقافي فقضت على إمكانية تطورها إلى “شعر فلسفي”، ولذلك وصف الغذّامي المتنبي بالفيلسوف المقموع لانصياعه إلى النسق الثقافي، مع أن الغذّامي كان يتمنى لو أن الشاعر تخلص من نسقيته وأخلص للحكمة التي هي قرين الفلسفة، لكنه وقع في براثن النسق فخسرت الثقافة العربية شاعرا فيلسوفاً.
ولم تكن الذاتية النابعة من النسق الثقافي وحدها التي قضت على المتنبي الفيلسوف، إنما أيضا مطاردته لحلم الإمارة عند الممدوحين من الولاة، لا سيما كافور الإخشيدي، واضطراره للمدح والهجاء، جعلت منه شخصية “الأمير المأمول”، وقد فرضت عليه هذه الشخصية أن يمدح الشخص نفسه ويذمه في الوقت ذاته في القصيدة ذاتها، أو يمدح ذاته وهو يمدح الآخرين ممن يطمع بهم ويطمح في أن يحققوا حلمه بالإمارة، وإلحاحه هذا جعل منه “شحاذا عظيما” أيضاً. لذلك كما توصل الغذّامي إلى البعد النفسي لذات المتنبي ونفسيته أنه “على قلق كأن الريح تحته” وعانى من الاغتراب في بلاد خراسان، لا يعرف الاستقرار والراحة، يرى أن المتنبي ذهب ضحية مقولاته النسقية التي ضخّمت ذاته، وأجبرته على الدخول في منازلة ليس بمقدوره الانتصار بها مع فاتك الأسدي، فقد كان صريع قولته الأنانية “الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ”، فلولا تذكير فاتك له بهذا البيت لنجا هو وابنه من الموت بهذه الطريقة الرخيصة، كما يصفها الغذّامي.
ربما من أجل كل هذا القلق لجأ المتنبي إلى نظرية المعرفة وارتباطها بالشقاء الذاتي، لأن من يعرف أكثر يشقى بهذه المعرفة، وهذه قضية فلسفية وليست شعرية، مطروحة منذ القول الأول في أساسيات المعرفة عند آدم عليه السلام، وتطورت في العصور اللاحقة عند الفلاسفة والشعراء والأنبياء، فقد جاء في الحديث الشريف “لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا”. لكن الغذّامي لم يناقشها بهذه النسقية الفكرية والفلسفية البشرية، وإنما ناقشها بثنائية العارف والجاهل، وردها إلى “التفوق الذاتي” عند المتنبي واستهانته بغيره، بمعنى أن الغذّامي قزّم الفكرة التي انتبه إليها المتنبي وكان متأثراً فيها بالفلاسفة الذين اطلع على كتاباتهم، لاسيما أرسطو طاليس، وكان الحاتمي قد ألف رسالة في ذلك تحت عنوان “الرسالة الحاتمية فيما وافق المتنبي في شعره كلام أرسطو في الحكمة“، ومصطلح الحكمة يناظر مصطلح الفلسفة عند الحاتمي، وفي الدرس العربي القديم في بعض أدبياته.
ويقف المؤلف عند أبيات المتنبي السائرة، تلك التي تشكل علامة في الذاكرة الثقافية، ويربط بعض تلك الأبيات بالنظريات النقدية المعاصرة، ومن ذلك ما فعله ببيت “أنام ملء جفوني عن شواردها”. وعلى الرغم مما في البيت من نسقية ثقافية تحيل على الأنا المتضخمة لدى الشاعر العربي إلا أن الغذّامي ينحو بالبيت منحى آخر نحو نظريات التلقي الحديثة التي تقول بتعدد المعنى بتعدد القراءة ذاتها من قراء متعددين في أوقات متعددة أو حالات نفسية معينة أو ظروف عامة أو خاصة. يقول الغذّامي: “وتبعاً لذلك يتعدد النص تبعاً لتعدد قرائه، ولو قلنا: إن نصاً ما تعرض لألف قراءة فسيكون ألف نصٍّ نظراً لتعدد فهوم قارئيه وتغير أزمنتهم وجغرافياتهم، ومن ثم تعدد مرجعياتهم الذاتية، ما يقتضي تنوعاً وتعدد تأويلاتهم للنص”.
إن هذه الفكرة بحد ذاتها بهذا الانفتاح التأويلي غير ممكنة عقلا، ولا لغة، وهي تدعو إلى فوضى المعنى أو إلى اللا معنى، لأن ثمة ما يحدد معنى النص، غير القارئ، وغير المؤلف حتى، لأن المؤلف عندما يكتب يستخدم هذا المتاح من التعبير عن المعنى، وهو أرضية مشتركة بينه وبين قارئه المحتمل، هذا ما يجعل التأويل- مهما تعدد- محصورا، فليس معقولا لو قرأ مليون قارئ نصا ما سينتج عن هذه القراءات مليون نصّ. إن في هذه الفكرة “عمى ثقافيا” من نوع آخر، إذ يفترض أن النص محدد بلغة ذات مرجعيات معنوية وأسلوبية محددة هي من تساهم في إنتاج المعنى وليس تعدد القارئ، مع وجود هامش معين من التأويل تتيحه طبيعة النص وتراكيبه، لا أمزجة القراء وأفكارهم ومرجعياتهم الذاتية وثقافاتهم المتعددة، بل إن المتنبي نفسه أشار إلى ضرورة الفهم السليم المنضبط، وذلك في بيته المشهور: “وكم من عائب قولا صحيحا وآفته من الفهم السقيم”، فليّ أعناق النصوص لتجعلها متوافقة مع التحليل النقدي تقنية غير سليمة، وهي آفة النقد أيضاً، وهذا ما وقع فيه أحيانا الغذّامي في بعض توريقات الكتاب.
وعلى الرغم من ذلك كله، وتماشيا مع ما يدّعي الغذّامي من تعدد القراءات، إلا أنه في موضع آخر من الكتاب لا يرى هذا التعدد في القراءة متاحا نهائيا، لا سيما وهو يناقش إخضاع الشاعر إلى النسق الثقافي في قوله “لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى، حتى يراق على جوانبه الدم”، ويشكك في كون البيت من شعر الحكمة أصلا، نظرا لهذه الفكرة التي ينتقدها فيه، ففي هذا الموقف يمنع الناقد تعدد الأفهام في شعر المتنبي، ويرى المعنى واضحا نهائيا مغلقاً، “ينطوي على نوع من التوحش الثقافي”، فالعبارات في البيت ليست مجازية، ولذلك “فهي من الوضوح والقطعية لدرجة لا تحتمل تعدد المعاني ولا تحتاج لقرائن تفك تركيبة المعنى”، ويصل في نهاية المناقشة إلى دمغ النسق للثقافة العربية بأنه يقوم على أن “الدم هو الحل”، و”أنها تميل إلى تغليب القطيعة مع كل أنظمة التعامل التفاوضي، وتقوي القمعية والتسلطية الذاتية”، وعليه فإن هذا البيت يعبر عن نسقية متوارثة ومتأصلة “تؤسس لنظرية في العلاقات العامة تقوم على الفتك والتقتيل”.
لم يستطع الغذّامي أن يرى في بيت المتنبي هذا معنى آخر كاشفا عن نسقية الثقافة العربية التي ترفض الذل، وأن هذه الذات الموصوفة بحب العنف تسترخص الدم في سبيل الشرف، فثمة أمور في الحياة لا يحسن التفاوض عليها، ما دمنا نتحدث عن نسقية ثقافية، ولا نتحدث عن معنى اجتماعي محصور في مشاجرة عائلية، فالعرب كغيرهم من الأمم الأخرى، يعرفون متى يفاوضون، ومتى يصبح التفاوض مؤشرا على الخنوع والضعف وضياع الحقوق، وهذا نسق ثقافي عربي مستقر في وعي العربي قبل أدوات النقد الثقافي، وقبل أن يقدم أي ناقد قراءة مغلوطة لهذا البيت وأمثاله من الشعر العربي.
وإذا اختلف الحال اختلف المقال كما يقولون، فهذا زهير بن أبي سلمى قال: “ومن لم يصانع في أمور كثيرة يضرّس بأنياب ويوطئ بمنسم”، ففي هذا البيت نسق ثقافي آخر، مستقر أيضا عند العربي، حيث المدارة والمصانعة التي تجلب المنفعة الاجتماعية والسلم الأهلي الاجتماعي على إثر المشاجرات العائلية والقبلية، كما حدث مع الشاعر زهير، وهو يمدح هرم بن سنان والحارث بن عوف اللذين أنهيا حربا ضروسا استمرت لعقود بين عبس وذبيان، فالشاعر الحكيم قال بيته ضمن هذا السياق العربي الخالص بين العرب أنفسهم، هذا المعنى الذي عززه القرآن الكريم بقوله “أذلة على المؤمنين” و”رحماء بينهم”، أي أن ما يحكم العلاقة بين المؤمنين، أبناء القوم، أبناء الوطن الذين تجمعهم وشائج ومصالح مشتركة دائمة، مادية ومعنوية لا بد من أن تكون العلاقة بينهم هذا هو أساسها، أما العدو المتربص فينا، يقتلنا ويحتل أراضينا، وينهب ثرواتنا، ويسعى إلى استعبادنا، فليس له إلا “الدم”، وقد ورد في الثقافة العربية جمل ثقافية تشير إلى هذا المعنى وترسخه ضمن نسق الثقافة الأشمل، وما تستدعيه الجملة الثقافية- حسب مفهوم الغذّامي- من إحداث تحوّل موقفيّ ضمن سياق الثقافة الواحدة، أو في العلاقة بين الثقافات المختلفة.
لقد أضمر الغذّامي هذا المعنى وأغفله في سياق الحديث عن النسق مرة أخرى، وهو يناقش مسألة مجابهة الفردانية التي أفرزتها الرأسمالية فيما فعله سكان عمارة ما في التوريقة (46) “شجرة في غابة إسمنت”، ويمتدح هذا الفعل، ضمن نسق الحياة الرأسمالية الغربية التي تقتل النفس البشرية والإنسان المعاصر، لكنه لم يعرّج- وهنا فعل الإخفاء النسقي- على الثقافة العربية الجاهلية، وما بعدُ الإسلامية التي تحترم إنسانية الإنسان، وتحطم الفردانية، وتجعل الجار مسؤولا عن جاره لسابع جار، والصاحب بالجنب، ويمتد إلى ابن السبيل، الشخص غير المعروف، فالثقافة الإسلامية بنت نسقا ثقافيا عاما يجعل المسلمين كلا واحدا، ابتداء بالجار، ثم بالعرصة، فــ “أيما أهل عرصة أمسوا وفيهم جائع فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله”، ثم بالكل، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”، ومحاربة الفردانية في الإسلام ذات منهجية واضحة ومؤسسة تجعلها نسقا ثقافيا مبنيا على أساس روحي، مثلها في ذلك مثل القضاء على العبودية، وتحطيم الفوارق بين الناس، فلا سيد ولا عبد، ولا أسود ولا أحمر، وردّت نصوص الثقافة الإسلامية الجميع- عربا وغير عرب، مسلمين وغير مسلمين- إلى أصل واحد، فكلنا لآدم وآدم من تراب. هذا جانب من النسق الثقافي الذي لم يتعرض له الغذّامي إطلاقا وهو يناقش نسقية المتنبي المبنية على الذات المتضخمة أكثر مما هي مبنية على الحكمة أو التعقل الفكري ما جعل كتابه ملتبسا، كما المتنبي نفسه، فلكل من اسمه نصيب حتى الكتب، وتشير إلى نسق معين متحكم بعقل المؤلف، وليست أسماء الأشخاص وحدها ما تشير إلى تلك النسقية، كما جاء في كتاب الغذّامي.