المقالة

كلما أفلتت من جدار الصمت

من أعمال التشكيلي بشير حمودة.
من أعمال التشكيلي بشير حمودة.

في السجن لا يوجد مرآة تنظر إلى وجهك فيها، ولكي لا تنسى ملامحك عليك بالنظر إلى وجه من معك في الزنزانة فهم يشبهونك بطريقة ما، حتى اسمك يتركك مذهولاً وحائراً، فأنت لأول مرة ستشعر أنك لست في حاجة إليه، في ذاك الحيّز الضيق لا أهمية للأسماء، لا أحد يريد أن يتذكر ذاك الاسم الذي دخل قبله إلى السجن، في كل مكان اسمك تابع لك، أما في السجن فأنت تقف خلف الأفكار التي يدل عليها اسمك، لا يمكن لأحد تصور كثافة غموض السجن، ومع ذلك أصبح السجن بديهة اجتماعية وسياسية لا يمكن مناقشتها، متى تحول السجن إلى دولاب من دواليب السلطة السياسية؟ متى تحالف خوف السلطة مع القانون لجعل السجن مادة تهديد وقمع؟ كل الحضارات عرفت العقاب وساهمت في مأْسسته وتطويره، لكن السجن من وجهة نظر الأنظمة السياسية خطوة متقدمة باتجاه النزعة الإنسانية، وهذا لأن السجن كعقاب مسبوق بتاريخ دمويّ رهيب جعلَ السلطة تنظر إلى العقاب السجني كنوع من العقاب الإنساني بشكل من الأشكال، يختلف السجن السياسي عن السجن على خلفية قانونية، في أن الأول عمل انتقامي وقمعي، أما الثاني فهو عمل أخلاقي و إصلاحي، الأول رد فعل عنيف من قبل السلطة أما الثاني فهو عمل يساهم في ردع باقي الأفراد عن القيام بنفس الجرم، كل سلطة تخاف الكلام ولهذا عليها أن تتسلح بآذان تجيد نخل الكلام، لابد أن يخضع الكلام للمراقبة، للفحص، كل الأنظمة السياسية وخاصة المثيرة للشفقة تتعامل مع المواطنين على أساسٍ من تراتبية كلامية، لابد من تمييز النبرة، تمييز الكلمات التي تسخر منها، التي تفضح تبجحها، ضجيجها، صخبها، أكاذيبها التي تعتبرها حقيقة، السياسي يرفض أن يكون السامع طرفاً في الحوار، الإصرار على أن تكون طرفاً يعني دخولك السجن، زنزانةٌ صغيرة، خطوات معدودة لتكون عند الباب المغلق، خطوات في الاتجاه المعاكس وتجد نفَسك تحت قضبان الفتحة الصغيرة القريبة من السقف، حوض للغسل ومرحاض، لا شيء أكثر، قدرة الإنسان على العدل والظلم هي ما يجعله يميز بشكل واضح بين اللذة والألم، الزنزانة هي مكانُ هذا التمييز بامتياز، تحاول السلطة في هذا المكان الضيق تحويل الإنسان إلى مجرد مسألة أكل وشرب، في هذه الزنزانة تظهر السلطة بشكلها العاري، في بعدها الأكثر تجاوزاً، في وحشيتها المدفوعة بجنونها إلى حدودها القصوى، ومبررها في ذلك هو أنها تعمل على هيمنة النظام على الفوضى، خاصة فوضى الكلام، وفوضى الكتابة التي تزيح كلامها هي من مكانه، قال بروست : ”  تعاملوا مع كتبي مثل النظرات المصوبة إلى الخارج، فإذا لم تساعدكم استعملوا نظرات أخرى، عليكم أن تجدوا بأنفسكم أجهزتكم والتي هي بالقوة أجهزة معركة “، كلام المناضل السياسي غير مَعني بقوة الشعور التي فيه، معني فقط بالحقيقة التي تفيض منه وتحرك الناس، هذا ما تخافه السلطة، هذه الحقيقة يجب سجنها والتحفظ عليها، ليصبح السجن هو لحظة هذه الحقيقة، ولحظة عجز السلطة عن محوها، لا تستطيع السلطة أن تتجاهل أو تنسى صوت قلة من الناس لا تشاركها الرأي، ستكون فظة، وقحة، لأن هؤلاء القلة يعرفون جيدا كيف يمكن التقاط صوت الشعب، الأدب خطير، الأدب يجعل التساؤل أكثر جذرية، السلطة لا تحب وخز الأسئلة، والأدب يسعى بكل ما فيه وراء تلك الخطابات التي تريد أن تفهمنا أنها لا تخفي شيئاً خلفها وأنها تعمل لمصلحتنا ويطرح أمامها الكثير من علامات الاستفهام .يجب أن ننتبه إلى أن الأدب يمارس السياسة بوصفه أدبا عندما يختار المواجهة مع خطاب يستخدم الكلمات للسيطرة، إحدى طرق الفعل في هذه المواجهة هي التكلم والكتابة، شَعَر الأدب في لحظة من لحظات التاريخ أنه ملزم بتحمل مسؤولية بناء عالم مشترك من الأعباء، وتحولَ إلى جهاز معركة، لكن الأدب لا يسجن، كاتب الأدب هو من يطارَد كفريسة لا أهمية لها، تحاول السلطة السياسية من خلال وضع الكاتب في السجن، أن تعزل الأدب أو على جعله منغلقاً على نفسه، وعلى من هم خارج السجن أن ينظروا للأدب كبقعة لزجة من الزيت يجب تجنبها، الأدب ومن باب المسؤولية يعمل على تقييم الوسط السياسي للنص المكتوب، الأدب ليست له آذان تجيد النخل، يسمع الهمهمات، اللعنات، الشتائم، الآراء، الأفكار، النكات، التي تبعث على قلق السلطة وحيرتها، تخاف السلطة من القصائد، من القصص، من الروايات، لأنها مكان التنبؤ بزوالها، مكان مقاومتها، كل النصوص الحميمة و الغاضبة فيها ما يبعث السلطة على الارتعاد، في الزنزانة الضيقة هناك وقت كافٍ جدا للكتابة، السجين السياسي لديه المبرر والحافز للكتابة، وهو لن يضطر ككل كاتب لمحاربة الكسل، الكتابة في السجن تمنح السجين ليس فقط الرغبة في البقاء على قيد الحياة، بل والبقاء من أجل هدف، لن يفكر السجين في كتابة ما مارسه وتعلمه في صبر، الصبر مثلا على سماع التصفيق، على سماع كلمات التأليه و الإعجاب، على تصديق المنحرف و الأحمق و القاسي الذي يخطب فيهم، لا يهتم الأدب المكتوب في زنزانة بالكلام عن السجن بل بالكلام الصادر عن السجن، بالخطاب المضاد لخطاب السلطة الحمقاء، ما يُكتب في الزنزانة هو المكبوت في الخارج، ما يقال في الزنزانة هو المسكوت عنه في الخارج، هذا الحيز الضيق و المظلم يتسع لكل الحرية التي يحلم بها كل مواطن، يتسع لكل الآراء، لكل المواقف السياسية، ليست الزنزانة مكاناً للموت، إنها مكان للحياة، مكان لحقائق، مكان لعلاقات سياسية غير مدركة ولا يمكن فهمها في الخارج، فإذا كانت السياسة هي تأسيس مجال خاص من الخبرة يَفترض وجودَ أغراض عامة ويُنظر فيه إلى البعض على أنهم قادرون على تحديد هذه الأغراض والمحاجة بشأنها، فإن السجن مكان صحي لمثل هذه المحاجة، هناك يمكن تخليص الكلمات من استعمالها السياسي الخبيث، الحوار أو الجدل في الزنزانة لا يعمل لمصلحة شيء خارجها، الجدل السياسي هو كلام السجناء عن أنفسهم، جدل يتحول إلى أدب يدمر أسوار السجن ويخرج للعالم، تجربة السجن لا تتجمع بالكامل في لحظة التفكير فيها، أو في كلمات السجناء أنفسهم عنها، يجب البحث عنها في نصوصٍ كتبت وسط جدران من الإسمنت تم طلاؤها بالكراهية والحقد من قبل السلطة، لهذا يغلب الوصف على أي شيء آخر في أدب السجن، وصف وتحليل بصري لكل التفاصيل المتعلقة بالسجين والسجان في نفس الوقت، في هذا الأدب الخوف يتراجع فجأة، حتى المسافة بين السجين والسلطة تتراجع لدرجة أن السجين يستطيع كتابة ملامح السلطة على الصفحة البيضاء بحروف مفهومة .كتابة السيرة الذاتية لحياة السجن هي كتابة سيرة مزدوجة، سيرة السجين، وسيرة السجان، إنه لمشهد ذو مغزى، أنْ نرى وجه السجان في حين يكتب السجين عن معالم وجهه هو، هنا في مثل هذه السيرة بالذات يتضامن الخاص مع العام، الأدبي مع السياسي، الثقافي مع التاريخي لخلق نص يتكلم عن الحياة الخام، عن الحقيقة وكيف تنسق قصة حياة، نص يتحدث بدهشة عما يمكن أن يصل إليه الإنسان من وحشية، كيف تنحط السلطة إلى البربرية الخالية من كل القيم، في السجن لا تبحث الكلمات عن مكانها المناسب، هي تعرف طريقها جيدا إلى تلك الصفحات الصغيرة التي تم جمعها من علب السجائر، يمكن أن نقرأ الكثير، ونسمع الكثير، ونرى الكثير في مثل هذه السيرة، ونفهم كيف يفي الأدب بالتزامه تجاه قضايا الإنسانية، لا مجال للتفكير في الأسلوب، لا مجال للتلاعب بالكلمات، أو الخطأ في ترتيب الجمل، بلاغة السجن ستتكفل بكل هذا، بلاغة السجن ستكسر هامش الجدار الهش بين السجين والعالم الخارجي، كلمات عن الطفولة، عن الشباب، عن الأفكار، عن الصراع مع الشوق للوطن المحكوم عليه بالأشغال الشاقة هو الآخر، تنهيدة وراء تنهيدة تلمح للعائلة، للحبيبة، للزوجة والأطفال، وكل هذه الحميمية لن تكون بمعزل عن السياسة، وصور العذاب، ليست بمعزل عن الجثث في الساحة وكأنها تأكيد على أن السلطة بلا إرهاب عاجزة، أدب مثل هذا يثبت أنّ الفكرة لا يمكن حبسها، يسلط الضوء على أسلوب الجدران السميكة، الأبواب المغلقة، القضبان، الأسلاك الشائكة، على أسلوب الدقائق والساعات وهي تعمل بعيدا عن أرض المعركة، و أخيرا أسلوب المسافة بين خيبة الأمل السياسية والنجاح الأدبي، مثل هذه الكتابات تهز عصوراً وعروشاً وبلداناً بكاملها، وتؤكد جدية الأدب ومنَعته وحريته غير القابلة للاستلاب حتى في مكان تم بناؤه خصيصا ليُسجن فيه.


عن موقع الكاتب www.altrhuni.ly/

مقالات ذات علاقة

دعوة إلى وزارة الثقافة.. تنظيم مهرجان القراءة للجميع بكل بلدية

مصطفى بديوي

أين ليبيا ألتي عرفت؟ (12)

المشرف العام

الراكبون على أكتاف الموتى

المشرف العام

اترك تعليق