عدد كبير من الأدباء يبحثون باستماتة عن مواضيعهم الروائية، ولأجلها يخوضون الحروب، يهاجرون لقارات بعيدة، يفتعلون علاقات خطرة، يحاورون قتلة عتاة، ولدينا أمثلة عن هؤلاء: ارنست همنغواي، جوزيف كونراد، ترومان كابوتي، خلقوا أحداث رواياتهم بأيديهم، ثم صنعوا منها نسيجا متماسكا من التجربة والخيال. لكن هناك من يجد نفسه في خضم تجربة أليمة او ممتعة، لا يد له في خلقها، ليعتبرها خفية، صدفة جيدة، تصلح لعمل أدبي، دوستويفسكي فعل هذا، عندما نقل تجربة السجن السيبيري في أدبه، كذلك فعل سولجستين، كتب كثيرة تروي أحداث وقعت لكتابها.
في الادب الليبي عدد لا بأس به من هذا النوع الادبي، “سجنيات” للكاتب عمر أبوالقاسم الككلي، أدب أحمد الفيتوري، “قساوة القيد، صلابة الروح” للكاتب عبد العظيم قباصة، وكتاب “من المدرسة إلى المعركة” للكاتب عبدالله صالح علي، لم يكونوا يتوقعون يوما أن تحدث لهم تلك التجارب، إلا ان جلهم أدركوا منذ اللحظة الأولى لحدوثها، أنهم سيكتبون عنها، ليغدو الكتاب الناتج مزيجا سلسلا بين الصدفة والتواطؤ.
كتاب ابراهيم عثمونه: “الممر” من هذا النوع، فهو يؤرخ بقالب روائي طريف ما وراء أحداث خطف “طائرة تمنهنت” التي كان من المفترض ان تحط في العاصمة طرابلس، إلا انها حطت في مطار فاليتا بمالطا، وقد تابعنا مجرياتها عبر الشاشات ووسائل التواصل وإن كنا شهدنا متابعة بأعين صحفية وإعلامية مندهشة ومتحمسة لحدث جديد من الغرائيبية الليبية، مع كثير من الشائعات لكل ما أحاط بالحدث من عدم فهم وترقب وخيبة وشعور باللاجدوى.
عمل إبراهيم عثمونه ينقل أمرا مختلفا جدا، يحدث داخل الطائرة، بل داخل عقل بشري في أقصى توتراته داخل طائرة مختطفة، نكتشف ان ما حدث هو بضبط نتيجة لوجود عثمونه داخل الطائرة، الكاتب يؤكد انه كان حتى قبل ساعات قليلة من اقلاع الطائرة كان ينوي السفر برا، نفس النية كانت لدى بعض الركاب، وإن كانوا فضلوا السفر جوا لتفادي سطوة المليشيات على الارض، فإن عثمونه لم يكن يمتلك سببا لتغيير البر بالجو، ولم يكن السبب مفهوما بالنسبة إليه إلا بعد تكشف ما يحدث حوله، فهو معد لكتابة نص يمنح الصدف والمفارقات معنى اوسع مما نعرفه. خطف الطائرة ليس سوى أمر عرضي، لابدع عمل فني ملئ بالتهكم والسخرية وروح التفاؤل مع استعداد حقيقي لاكتشاف المزيد من المفارقات.
هذا ما يتضح في أغلب صفحات الكتاب، لحظات غير متوقعة، متسلسلة بأسلوب غرائيبي يستند على حدث من الذاكرة السائلة، كاليد التي تظهر حتى في الصور الفوتوغرافية وتسجيلات الفيديو، دون ان تكون متصلة بجسد ما، يد تحلق وحدها، شخصية الأب، وادراك الكاتب للموقف داخل الممر وما يحدث فيه، قصص تبعث على الضحك الأحمر، مثل حادثة اشعال البول، ولفت اهتمام الحرس المالطي، كما ان هناك قصصا تبعث على التأمل عن اللا جدوى في كل ذلك، مثلما حدث في الواقع تماما، شخصان من الجنوب يخطفان طائرة، يبحثان عن اللجوء، ويعلنان أنهما من أنصار الفاتح الجديد، شيء عبثي استطاع عثمونه نقله باتقان وبراعة بلغة روائية ساخرة.