عبد المجيد عبد العزيز | تونس
ترد الكثير من النصوص الشعرية المحكية التي ينشرها محمد الدنقلي على صفحته التواصلية بلا عناوين ولا تعيين ولا مفاتيح ندخلها من حيث شئنا وربما كان دليلنا إلى النص ملقى في ناحية من نواحيه حسب منحانا فيه. أما نصوصه الأخرى فأمرها مختلف لأنها ذات العناوين العلامات المثيرة ومنها نص “وصول”.
قد تغنيك العناوين عما يجيء في جواهر النصوص وخواتمها أو يغريك باكتشافهما، وتلك هي بعض وظائف العتبات التي تنبئ بوجهة النص او تنشئ لديك استفهاما أو افتقارا ما، وهو ما يفعله هذا العنوان لما أعلن الختام في مفتتح الكلام وتجدك أمام حدث ”وصول” والسلام. وهو حدث جامد صامت لا مسند اليه ولا أين له ولا متى ولا كيف، حدث مطلق إلى أبعد حدود جاذبية ما لا يحدّ. ولنا لن نتصور ماقبل هذا الحدث سفرا ورحيلا لا نعلم مراحله وتفاصيله وكل ذلك من تقدير الحاكي حتى نبحث عنها في ثنايا نصوصه وهي مسالكه وحالاته السالفة.
ومما يشي به العنوان هنا هو بشارة بـ “وصول” ربما كان نزولا سكونا بعد رحلة أو سكينة طمأنينة إثر قلق، أو فيه وصل لا يدرك نشوته الا من طوى القلب على شوق وعشق قديم، وربما كان التنكير هنا من باب تعظيم هذا الحدث الكبير في الشاعر.
ان الحاكي هنا رجل رحل ولا يزال في الجهات جميعها وفي الناس جميعهم، وأطلق العنان للحواس والأحاسيس حد التخمة فقال في القبح والجمال أجمل قيل، في الوطن في الناس في المرأة، واوغل فيها حتى رأى فيها شيئا لا يدركه الا من كانت فيه أشياء، إنه شيء في المرأة لا يتراءى لكل راء.
وتلك الأشياء الكامنة فيه وهو ابن الخلاء والفلاة والأرض الشاعرة المروحنة طفت في هذا النص حنينا إلى الجوهر والحق علامته لهفة الأسئلة تلك التي عبرت عن القلق الوجودي الاصيل فيه – ذاك الذي أطلّ بحياء في قصائد سابقة – عاده هنا بكل ثقله وذلك هو الحدث الشاحن في ترحال الحاكي.. لذلك يمكن ان تكون هذه الزاوية مدخلا للقصيدة باعتبارها من بنات أحوال مريد، و”أبو الأحوال” طوع ما تريد حالاته.
ولان مغامرة الرجل مغامرة الوجد فهو يعلن انه زاهد في الكثير من عاداته في الكتابة مثل وضوح العبارة وقرب المقاصد يلتقطها كل عابر،كما تحرر من عقال المعقول فألّف بالجناس بين الدلالتين اللغوية والاصطلاحية وأعلن أن “النحو” سجن لا نحو له لانه يقيد المعنى وربما كتم المقصد أو أتلفه. وهو هنا نلقاه واقفا في التخوم مهزوزا بحال من النشوة التي لا يلامسها الا المتصوفة.(كيف يقول ما يجد بلانحو).
فماوراء زيف ما بدا وظهر للحس والعقل من “نحو” وأنحاء هو المبحث الاصيل.. هو “الفحو” أو الفحوى الذي هو الجوهر والحق الذي لا حق سواه. فهل يعني ذلك انه يكتشف من نص الى نص ان مسارات سلكها في الكتابة تهبه بعض المعنى وبعض الطمأنينة فيقر في مثل هذا النص بذلك فالروح في صحو شديد والصحو يقظة شاملة يعجز عندها عن الابصار، وإذا كان الابصار لا يتم إلا بالكشف فهو مما لا يتحقق بالصحو والحضور بل بالغياب و”التلاشي”؟ لذلك كان والوصول هنا نزولا في حال جديدة من حالات الكيان تغمره نشوة تُبّاع ذريّة الحلاج وابن عربي وآخرين بلا عد. والوصول هنا لا يأخذ الدلالة المألوفة لأنه نزول عند أسئلة مختلفة ووعي آخر يبدو من خلال العنوان “البشارة ” مخرجا من ضياع قديم وأمارة وصحو وسبيل شفاء بالنسبة اليه…
(كيف نعرفك يا فحو..
كيف الوصول…
كيف التلاشي…
من منكشف عنه الحجاب)
انها اللهفة إلى لحظة الكشف وهي لحظة صوفية يترقى آنها في مغامرته الروحية لتتحقق معها معرفة حدسية تزول معها الحجب وتغمره نفحات ربانية غمرا فيتلاشى ويفنى ليقطع مع شيئيته ويصير جوهرا خالصا. آنذاك وهناك حيث لا يدري على حد عبارته يتحرر.
في مثل هذا النص نجد ضمونا جديدا للشعر المحكي يثير معه السؤال حول جواز أن تُحكى التجربة الصوفية في شعر هو احتفالي بالأساس؟ وهل يستبدل محمد جمهورا بآخر الى ان يفرغ من حكي مغامرة حالية فردية؟ ربما كان السؤال لا يعنيه لأنه مشغول بحال يمضي فيها إلى أقاصيها ثم يعود ليظفر بوصول آخر ويجد له رحيلا جديدا.
يعود سريعا إلى محبة الدنيا بمن فيها وما فيها ليعاود التوبة ككل (من تاب عما كان تاب) ولأنه في الأصل في حال وصل ووصول لا ينتهي يختلط فيه اللذيذ بالأليم وصداه نلقاه في النص اللاحق مباشرة حيث يقول:
تسلم روحك
وتسلم م التجريح جروحك…
من الصدق أن يؤرخ الدنقلي لحياته بوقائع كلامية تروي حوادث حالية ولا يؤرخ لأيامه بالساعات والسنوات. والحالات التي يعيشها هي حالات حب للوطن أو المرأة أو الناس أو المطلق كما هي حالات ثورة وشك وقلق تحكيها نصوص أخرى. ثم تختصم النصوص المرايا وكل يقول إني الحقيقة كما اختصم الاربعة وقال كل أنا رابع الأربعة.
*مدرس لغة عربية متقاعد. سبق له أن نشر قراءة لأحد نصوص الدنقلي..