ارتبط البروفيسور «فبريتسيو موري» الإيطالي بليبيا والليبيين طوال النصف الثاني من القرن العشرين وذلك عبر اكتشافاته المهمة وبحوثه الأهم عن تلك الاكتشافات.
كان «موري» قد نشر كتابه الأول عن فنون ما قبل التاريخ بجبال الأكاكوس ووديانها ملخصًا فيه نتائج تلك الأبحاث والدراسات التي توصل لها هو وفريقه العلمي.
كتاب «موري» الأول «تدرات أكاكوس» الذي ترجم إلى العربية في سبعينيات القرن الماضي مثل بالنسبة للباحثين والمهتمين في ليبيا فتحًا مهمًا لمعرفة تراث ليبي ظل مجهولًا، وكشفًا للكثير من أسرار الكيان والإنسان في ليبيا لما يقرب من العشرة آلاف عام من التاريخ والحضارة.
في كتاب «تدرات أكاكوس» كشف ودراسة لفنون ما قبل التاريخ وبالتحديد حقب العصر المطير، وصولًا لمرحلة التصحر الممتدة منذ أربعة آلاف عام وحتى الآن.
كان فريق الباحثين المشارك لموري يتكون من باحثين في الجيولوجيا والحفريات وفريق يدرس النباتات التي صنعت منها ألوان تلك اللوحات، إلى جانب فريق آخر من الرسامين الذين تفرغوا لسنوات لنسخ العشرات من تلك الجداريات.
«موري» قدم عبر كتابه «تدرات أكاكوس» مراحل تلك الفنون وتطورها، منذ أعمال الحفر الأولى إلى الأعمال الملونة ثم إلى مرحلة التصحر وفنها.
بعد نصف قرن من البحوث والحفريات وما شكله كل ذلك من تغير في دراسة حضارة ما قبل التاريخ، وما اكتشفه «موري» وفريقه من منجزات وعلى رأسها اكتشافه لأقدم مومياء في التاريخ بالأكاكوس، أعني مومياء «وان موهيجاج» الأقدم من مومياوات مصر بألفي عام بالتمام والكمال، قدم «موري» كتابه الأخير «رسالة إلى إخوتي الطوارق» الذي ترجمه إلى العربية الدكتور «نورالدين سعيد» وكتب مقدمة هذه الترجمة كاتبنا الكبير «إبراهيم الكوني» وتشرفت بمراجعة الترجمة ونشره مركز الدراسات التاريخية «الجهاد سابقًا».
يعد هذا الكتاب أو هذه الرسالة تلخيصًا وتتويجًا لمنجزات بروفسور فيريتسيو موري في التاريخ الليبي القديم «ما قبل التاريخ» والاكتشافات المهمة التي توصل لها وعلى رأسها اكتشاف المومياء الليبية، ورسوم ما قبل التاريخ ودراسة وتحليل كل تلك الاكتشافات عبر مهمة علمية طويلة وشاقة امتدت لنصف قرن كما أسلفت.
في هذا الكتاب يسرد «موري» سيرته العلمية والثقافية والروحية وما قدمت له ليبيا تاريخًا وشعبًا من معارف وقيم إنسانية وروحية، وأثر كل ذلك على تكوينه العلمي والثقافي والمعرفي.
«رسالة إلى إخوتي الطوارق» الذي كتبه موري كخلاصة لتجربته العلمية والثقافية الطويلة يعد رسالة ليس للطوارق والليبيين فقط بل للعالم خاصة أوروبا وإيطاليا عن ليبيا والليبيين وما يملكه هذا الكيان الليبي من حضارة عريقة ومن قيم أخلاقية ودينية سامية يحتاجها العالم لتحقيق السلام والعدالة بين بني الإنسان والحضارات.
هذا الكتاب أو الرسالة يحمل بين سطوره وبوضوح تام اعتذارًا أوروبيًا وإيطاليًا للطوارق والليبيين ولحضارة جنوب المتوسط من شماله. فموري وفي هذه الرسالة يعترف بمدى غروره وجهله وسخريته من هؤلاء البدو ومعارفهم عند وصوله مغامرًا مستكشفًا للصحراء الليبية، غرور غذته فيه حضارته الأوروبية التي قدمت هذه الشعوب كقطعان ضالة وجاهلة ولا تمتلك من المعارف والحضارة أكثر مما يعرف الحيوان، وتعيش دون قيم حضارية ولا أخلاقية، ليكتشف وعبر نصف قرن من العيش بينهم واكتشاف تاريخهم ومنجزات أسلافهم والقيم والأعراف التي رسخوها لتنظيم حياتهم الصعبة الشاقة، أن ما أنتجوه من قيم وأساليب تعايش مع الآخر والطبيعة منجز سامٍ، تحتاجه الحضارة الأوروبية لحل الكثير من أزماتها الثقافية والروحية.
كتب «موري» رسالته بلغة مشحونة بالعاطفة والإعجاب والمحبة للطوارق ولليبيا واستطاع المترجم الدكتور «نورالدين سعيد» أن ينقل تلك الأحاسيس والعواطف والمعارف بلغة عربية سلسة وواضحة دون أن تضيع بلاغتها وشفافية أسلوبها. هذه الرسالة مكسب مهم للتاريخ والثقافة في ليبيا، وتعميق لهذا الكيان الذي يتعرض لاجتثاث ممنهج لجذوره الحضارية، رسالة لنا وللآخرين أننا لم نشكل فراغًا حضاريًا ولا صندوق رمل.
اكتشافات موري وكتبه شكلت تيارًا ثقافيًا في ليبيا وإن كان صغيرًا وما زال يحبو، إلا أنه يتشكل ويترسخ ويتطور، تيار من الكتاب والرسامين، أنتمي له وفي طليعته الرواد الكبار «فؤاد الكعبازي وإبراهيم الكوني ورضوان بوشويشة».