قصة

الكهلٌ والمطر

من أعمال التشكيلي صلاح غيث
من أعمال التشكيلي صلاح غيث

1

ذهب إلى مقهى قريب من بيته، وعلى حافة الرصيف حدّث نفسه: سأمضي من وقتي بعض الوقت هناك كالعادة، وبصوت مسموع أضاف: غالباً ما تمر الأمور في المقهى دون نتائج مشوقة لستُ أدري، سَكَتَ عن الكلام .. ثمّة قوة خفية تتجاذبه لا يعرف لها تفسير، تبدو على وجهه ابتسامة هادئة، سيعيد لحظات من عبير زمنه الآمن، ولحظات من سالفات الدهور مدركاً فرار الأيام أمام سنوات عمره حِفاظاً على لون الفرح في سبحات الفكر وهي تجادل السنين الذواهب، فجأة في لحظة تخيرها صدفة قال بمرح في نفسه: أكيد سأجلس في المقهى ملء نواظري.. سرعان ما بدأ يخطو بخطوات مسرعة ، يرد التحية ويبتسم، في حين امتلأت السحب بطلائع الغيوم، ظلّ يخطو في غاية من الانبساط، يرقب الناس في اهتمام وهم يركضون على الرصيف، أخذ يفكر بدفء المقهى، لم يحفل بالمطر ينثر بعض من قطرات خفيفة فوق كتفيه.. توقف لحظة ثمّ مضى في طريقه..

2

 لحظات عابرة من معارك حياته مرّت برأسه كانت بمثل الغيث الكامن في السّحب، توقف على الرصيف، ابتسم وفكر بصوت مرتفع: ربما المقهى يكون عشاً للغرباء والتائهين، ربما عشاً للتائهين أكثر.. المقهى يظهر في لوحة ذاكرته، المقهى عتيق تفوح منه رائحة القهوة، تحف به متاجر تجارية تقليدية، وفي السماء زفيف ريح وغيوم تراقب المقهى مُتسللة في خفة في شوارع الحي بينما المطر الخفيف يواصل الهمس وهو ينث فوق الرصيف..

3

 خرج من بيته كأن له مزاج منعش من غير قلق، الشتاء الخريفي يتقدم يشي بإيقاع تبدل الفصول، والمساء كثيف مرح تنهشه غيوم السحائب، تجوس في المساء الريح مبهورة من عبوره الوئيد فوق الرصيف، منتبهة لكل خطوة يخطوها، يتوكأ على مهلٍ على عكازٍ خشبي قرمزي اللون، يخطو بخطوات ثابتة فيها مهابة و احتراس، يعفس بقدميه المتعبة طريقٌ خَبَرَه وطواه لسنوات خلت، تتجمع في الطريق فلول من دجى الليل، تبطئ في الخطو قال لنفسه: تجلّد إنكَ على وشك الوصول، أحسّ بأنّه كان كهلاً غرير القلب، تقدّم بخطوات ثابتة، والمطر الخفيف ينث فوق رأسه..

4

 وقف لحظة أمام المقهى، نظر إلى السماء البعيدة وهي ترتدي وشاح الليل.. تقدم في خطوه، وقف من جديد أمام العش القديم، خطوة أخرى حتى وصل إلى مدخل القهوة ، همّ بالدخول.. واقفٌ يفكر كيف أمتد الزمان و أمتد عمق الحياة، أدرك أنّه لم ينس العنوان، كيف ينساه وهو في معية صوته الغَرِد ، تذكر انّه ما جاء للمقهى إلا ليكسر وحدته.. حدّث نفسه: سأدخل وعقلي غير مرتحل يلوذ بحقول الدهشة..

5

 دخل المقهى، رائحة القهوة تبعث الأنس في صدره، حدق في الزبائن والمقاعد، بعد أنْ طلب قهوته واقفاً في طابور كبقية الزبائن لحظات، جلس عند طاولة صغيرة، يحتسي قهوته الساخنة، أخذ يقرأ تساؤلات بابلو نيرودا، توقف عن القراءة بعد أنْ أبصرها، كانت تجلس في الزاوية القريبة من مقعده ، جذبت انتباهه، غرق في سبات النظر إليها، تجلس بفستانها المشجر بورق العنب، فتاة رقيقة، شعرها الأسود يتدفق فوق كتفيها.. أنقطع شروده عن الزمن المتدفق وأينع البصرُ فتنةً ، أيّ رحيل خلف الفتنة المسافرة، دهش الكهل من أمر الفتاة .. كان يود أنْ يغني..

6

 فتاة شابة حلوة السمت قمحية البشرة، سمات إسبانية، جميلة، هادئة، تستمع إلى شيء ما عبر تليفونها الذكي، منكبةٌ عليه بشغف، تلامسه بأناملها الرشيقة، تّقرقر، تضحك، جدلاء، رقيقة الكلام، لغتها لم يبقى في المقهى سواها، عيونٌ ساحرةٌ، شفتان من حبات الرمان الفارسي، جمع شجاعته وتجرأ للسؤال..

7

تجرأ فحياها، لم تنتبه، تهزّ رأسها منهمكة في الصمت، غالب الظن تستمع إلى أغنية، أطل المطر يرقص بقطراته الخفيفة، أسرعت الجميلة خارج المقهى، تركت بعد مشيتها رماد من فضة ناعماً كالورد كتب قصيدة على طين الأرض، نزل المطر مُبتهجا، خرج قافلاً نحو البيت تحت غبطة المطر، حال وصوله البيت وجد نفسه عند الباب مبتلاً من رأسه حتى قدميه، تنهد بعمق، دخل البيت جذلان في تمهل وثبات.

مقالات ذات علاقة

الشيء.. الذي حدث

فتحي نصيب

جنازة…

أحمد يوسف عقيلة

فنجان حنظل

فهيمة الشريف

اترك تعليق