النقد

ملحُ الفكرة !!

قراءة في ديوان [شجر الكلام] للشاعر الليبي عبدالسلام العجيلي

 

مدخل:

إن الفنَ لا ينسخ الطبيعة./ اندريه جيد

ليس في العالمِ خيالٌ بدون حقيقة./ جلال الدين الرومي

 

* * *

ديوانٌ تأخر في الصدور، قصائد لا يحكمها ترتيب زمني، الديوان لا يحوي تعريفاً للشاعر، الأمر مختلفاً كثيراً في محتواه وفي هيئته.

الأمر يثير الكثير من نقاط الجدل، وقبل أن نبدأ في هذه القراءة، نحب أن نطرح هذا السؤال: لماذا هذا التعامي الذي يمارسه الشاعر الليبي بحق نصه ؟!

الكاتب الليبي عموماً، لا يهتم برسم شكل خاص به، أو كيان يصوغ بعض مقومات شخصيته، شاعرٌ ينـزوي بنصوصه الباهرة ليترك المجال للأقل جودة.

ديوان [عبدالسلام العجيلي] دفعني لطرح هذه الأسئلة، خصوصاً عندما قرأت في مجلة العربي الكويتية.. تعريف صغير بديوانه (1).. ويبدو أن الذي قام بإرسال الديوان نسي أن يعرف بالشاعر جيداً فحدث الخلط بينه وبين الروائي السوري [عبدالسلام العجيلي]

في ظل هذه المقدمة يظل الخيط الرفيع الذي يربط بين الطبيعي وغير الطبيعي وارداً هنا فيما يحيط بالشاعر، حيث القصيدة تصنعها مجموعة ظروف، ويظل الواقع الحقيقي يلقي بظلاله هنا وهناك، في جزئيات شائكة يختارها الشاعر ليقفز إلى الأذهان أو فلنقل طريقاً شائكاً يختاره الشاعر الليبي ليصل إلى المتلقي في ظل حضور نص غائب الخصوصية كالنص الحديث [أو تتوفر فيه من الخصوصية بدرجةٍ بسيطة]

بهذه الفكرة العامة عن الديوان نتناول القصائد كالآتي:

أولاً: قصيدةُ [السفر الرمادي] والتي جاءت في بداية الديوان، وهذه القصيدة كانت هي القصيدة الوحيدة المنشورة للشاعر ولفترة طويلة جداً، هذه القصيدة تعطي فكرة جيدة عن تعامل الشاعر مع قصائده الأخرى، بدايةً من العنوان الذي يشكلُ مُغايرةً، ومروراً بمقاطع القصيدة التي تحملُ داخلها بذور رد فعل محموم تجاه الواقع حيث: [تنامُ الذكريات سأماً تخثر في مسام الليل، وترتعد الخطى في عُري المسافات] وانتهاءً بزخم التفاصيل الذي يدخلها الشاعر بوتقة القصيدة منساقاً وراء الواقع برؤية مختلفة نوعاً ما.

ثانياً: نرى في قصائد [العجيلي] بحث الشاعر عن حالة مغايرة، حالة متخيلة ومحمومة بالواقع في ذات الوقت، لذلك فهي تغرسُ جذوره في العمق[ عمق الواقع طبعاً] لتستعرضه بشكل مغاير.

قصائد (العجيلي) ممسوسة بأجواءِ المدينة، وباستثناء قصيدة (السفر الرمادي) التي كتبت في فترة متقدمة تكاد تكون أغلب قصائد الديوان تواكب التحولات في المدينة وتنصهر فيها مظاهر عدة:

(مدينة ضيعت قميص نومها) و( المدينة تتثاءب.. تحك خاصرتها جيداً) و( المدينة التي أحببت.. تركتني خارج أسوارها).

وتقف القصيدة على مجموعة من الصور ومن هذه الصور (لعاب الطوابير) إلى
(صحراء الأسرة) إلى (الليل قبعة الخائفين) و (ريح عجوز سقطت أسنانها) على تماس مع أغلب المواضيع لذلك تبرز في القصيدة بروح مختلفة: (فالرأس مرهون بظل رصاصة) و (ثروتي حزمة من البطاقات) و (النعاس بطعم البرتقال).

قصائد (العجيلي) توظف السرد في خلق فضاء مغاير، وهنا تقترب القصيدة من القصة بالأخص عندما تتماس مع اليومي بحميمة خاصة لذلك تظل لها القدرة على الوصول إلى القارئ، ويقف التناسب بين شقي الكلام (المادي والمعنوي) لخلق حالة مشهدية ملائمة يتسع فيها الخيال العميق الدلالة إلى أبعد الحدود:

والنهارُ لا يعرف

كيف يمشي متسللاً

وعلى ساقٍ واحدة

إلى ثلاجة الموتى ثم يعود..

ثالثاً: كلُّ شيء يشكل استثناءً، لكن الاستثناء الكبير يظل في القصيدة في حد ذاتها، لذلك تنحاز أغلب القصائد إلى الذات في تلمسها خلق رد فعل جماعي، من هنا تنساق الذات عبر تفاعلها مع الآخرين – وبصيغة الجمع – في تلمس اغلب المواضيع، الذات التي يكتبه العجيلي ذات غير محايدة، ذات لا تركن إلى مشاغلها، وتقفل الباب على الآخر،بل تصر على وضعه في بوتقة رد الفعل، لذلك فهي تستقطب الحدث، لتسرب من خلاله رد الفعل، لكن الذات تعود إلى عالمها الصغير، إلى حدودها وعوالمها الخاصة، وإن كان سياق القصيدة يطلق عنان الذات نحو فضاء أرحب، فإنه أيضاً يعود بها نحو بعدها الواحد:

وضعي يدكِ على صدري

حتى لا أسقط عليكِ

احمليني إلى سريرٍ لا يسخر

من قصائدي

ثم انزعي لساني لا أريد الكلام.

المواضيع المطروحة من خلال القصائد تكاد تكون مُغلفة بنوع من الغموض، تساهم في هذا الغموض كل عناصر النص – كأن القصيدة في حالة تمرد دائم – فالمواضيع تطرح في إطار من الصور، لذلك تظل مسكونة بقلقها إزاء المتلقي، فالقصائد أشبه بلقطات متشابكة تحكمها تراتبية الشاعر، تبدأُ من ذاتية الفعل، وتكمله الصور المستحدثة، الشاعر هنا يُسودُ نفسه، نقطة عبور، مستوى آخر للتفسير، عين جديدة ترى وتبهر وتنقل:

أنتعلُ ثقباً في الصباح

أهرب في جيب الظهيرة قبلتي

اقترح عظامي حطباً لمساءات الرحلة.

رابعاً: في مستوى آخر تُشكلُ بعض المقاطع نوعاً من التقابل، يتقابلُ فيه الجزئي الكلي، ويتشكل عبر هذا التقابل نوعاً مغايراً من الرؤية، فالشاعر يقدم الجزء بينما هو مُنشغل بالكل، يطرح من خلال الجزء الظاهر ما يريد أن يقول ويترك الباقي للمتلقي:

وليس لي هنا.. إلا

مؤامرة الزعتر

والآبار الملغمة

والرعاة المخبرون.

قصيدة [العجيلي] تؤطر الحوادث جيداً، لذلك فهي تملك جذوراً قوية في الواقع،وهي في نفس الوقت ترتدي لباس الخيال الزاهي، الخيال الذي هو [رؤية أكثر نفاذاً للواقع ](2)

لذلك فهي لا تطلق العنان للخيال إلا ليجذبها الواقع، إنها قصيدة قطبين، إنها مسكونة بالواقع في ذات الوقت المسكونة بالخيال.

خامساً: سؤال مهم يظهر من خلال تناول هذا الديوان [وهذا السؤال تظهر في الشعر الحديث عادة] هل تنطبق الفكرة على النص تطابقاً كاملاً ؟!

ففي أغلب قصائد الديوان يظهر انفعال الشاعر وراء الصور على حساب فكرة النص الأساسية، من هناك ففكرة نص [السفر الرمادي] مثلاً، تضيع من كثرة الصور المنجزة، وتظل الفكرة في النصوص الأخرى جزئية معتمة بعض الشيء، لكنها تناوش القارئ من خلال ما يتوفر فيها من صور منجزة.

ما ينقص النصوص الحديثة بعض من ملح الأفكار، لذلك يجب التركيز على تطابق الفكرة مع القصيدة.

سادساً: قصائد الديوان تُكمل بعضها، أي أنها تشكل مع بعضها مجتمعة قصيدة طويلة أو مجموعة من القصائد التي يجمعها عنوان واحد، حيث تخيمُ عليها نفس الأجواء ويستقطبها الحدث ويتضح من ذلك أن معظم قصائد الديوان كُتبت بنفسٍ واحد، وتتشكلُ عبر فترةٍ زمنية محددة، لذلك فالديوان قطعة واحدة، نسيج واحد وقصيدة واحدة.

البيضاء 2004 -2005 -2006

ـــــــــ

هوامش:

1. مجلة العربي الكويتية ـ العدد 527 ـ أنظر باب مكتبة العربي

2. كتاب قطرات الحبر ـ للكاتب يوسف القويري

مقالات ذات علاقة

تشابه البياتي وعلي الرقيعي وعلي صدقي

عبدالرزاق الماعزي

تماس مع (رملة الزقرار)

ناصر سالم المقرحي

رواية موشومة بالموروث النسائي الليبي

إنتصار بوراوي

اترك تعليق