المقالة

حول صعلكة القراءة

ذات أمسية على كتف الصديق النديم المعلم عمر بن ناصر حبيب (الصورة: الشاعر المهدي الحمروني)
ذات أمسية على كتف الصديق النديم المعلم عمر بن ناصر حبيب (الصورة: الشاعر المهدي الحمروني)

دعاني الصديقان الشاعر محيي الدين المحجوب والأديبة الفنانة وداد التليسي، لاقتراح عرض عددٍ من الكتب التي أراها مؤثرةً في زاد مساري الشاق والمتواضع، على أرخبيل ومضائق ومنعرجات ومفازات الشعر، وهنا لعلي أجد براحاً لبثِّ مفارقاتي مع الحقل المُلغم بالجمال والاضطلاع به، الذي لا شك أنه يشكل حسمه في تأهيل كل قلمٍ شغوفٍ بالتعاطي الإبداعي، ليقودني هذا للحديث عن عراك البواكير المؤسسة له، والخاضعة غالبًا للمناهج الدراسية، التي توازي ما كانت تفعله العرب لأبنائها، حينما كانوا يبعثون بهم للأعراب البادية لتعلم البلاغة ورواية الشعر، وهو ما يمثل تدريسًا خصوصيًّا وتأصيلًا لدراسةٍ عليا من مصادرها النقية، وهي ليست دراسة إلزامية لمنهج غير قابل للتقييم، عبر نتائج التحصيل لسنوات الابتداء والإعداد، وهنا أجدني في عمق نقد انتخاب النصوص وفرضها بلا تغيير عبر مراحل تعليمنا المختلفة، حين أذكر أن ما اختلسني الى الشعر هي تلك النصوص التي لم تكن مقررةً، في ما بثّه الاستاذ “عبدالفتاح منصور” من آراء نقدية حوَت رؤياه وميوله لنصوص وشعراء، أثناء خروجه عن نص المقررات، عبر آدائه الاسطوري في شرحها وتناولها، ضمن حصصٍ تسلّلتُ لها في الثالثة الاعدادي والأولى ثانوي، ولم أكن ضمن تلاميذه،

من هنا كان مساري غير ممنهج يُرقِّع ثوبه متصعلكًا بين المراجع دون هادٍ، حين شرعت في اقتناء دواوين القدامى وحدي، مع تواضع مدرسي اللغة والأدب الذين أحالوهما إلى مواد هامشية مجردة، في بيئةٍ لا تغذّيهما بالتوابل والمنشّطات، عدا تلك المسلسلات التاريخية في الدراما اللبنانية، فنبت الشعر على أطرافي عصاميًّا كالصبّار على التِباب الجافة، “والجرنجي” في الوهاد السبِخة والأثل على الأحراش المالحة. ظللت انتقائيَّ التناول مشدودًا إلى إيقاع العمودي الذي وخزته أنشودة المطر للسياب، ولم تستحوذها إلى التفعيلة، وتسرّب لي نص “رجلٌ بأسره يمشي وحيداً” ونص “سيرة العطب”  ” ل مفتاح العماري” ثم نص بلادٌ تحبها وتزدريك “لعمر الكدي Omar Elkeddi “

، وهنا يجب أن أؤكد أن قراءة قصيدةٍ واحدة قد تكون بتأثير كتابٍ أو ديوان، وهو ما قاد النقاد القدامى إلى انتخاب ووضع المعلقات والمفضليات والأصمعيات والأغاني والعمدة والعقد الفريد وجمهرة أشعار العرب ومختارات التليسي، كنت شغوفًا بالمقتضب والمختارات.

يقول “يحيى جابر” إن كتاب خواتم “لأُنسي الحاج” هو كتاب آخر القرن مثلما كان كتاب النبي لجبران هو كتاب أول القرن، بينما يرى أُنسي الحاج نفسه أن مقدمته لديوان “لن” في آخر الخمسينات هي أكثر تأثيرًا من ديوانها في انطلاق مجلة شعر وبواكير قصيدة النثر، ويعتبر أن شهرة وذيوع “لن” عضدها ودعمها وكرّسها تيار ومجموعة مجلة شعر، في سطوتها الإعلامية بتلك الحقبة، وساق مثالاً على ملهميه المغمورين الذين افتقدوا نصرة المجموعة والتيار ” فؤاد سليمان والياس خليل زخريا”، إنك لو بحثت في القوقل الآن لن تجد هؤلاء للأسف، وهذا ما شكَّل ظاهرة حظوة الظهور لأسماء محظوظة، وطمس أخرى مستحقة في الكثير من الساحات، ورغم انعدال الميزان بالمنصات الإلكترونية لاحقًا، إلا أن المتعاطين ركَّبوا السِنان للقناة، بمواقع ومجموعات وألاعيب انطوت على الإظهار والتلميع والتهميش والطمس.

كان عليّ أن آنس لديوان “جبال ويدٌ في آخر العالم” “لسيف الرحبي” وأُحدِّث نفسي أنه كتاب آخر القرن، مثل هذه الكتب اقتنيها نسختين لأني أعلم أن إحداها ستختفي في التعاطي مع الندامى، وأن أتأمل أن ديوان الشابي و”إشراقة” للتيجاني يوسف بشير هما دواوين أوائله مرورًا بالأخطل الصغير وأبي ريشة وبدوي الجبل وسعيد عقل وعرار وأمين نخلة والياس أبوشبكة والجواهري والفيتوري في الفعل التجديدي، وأخيرًا عبدالرزاق عبدالواحد بالتأكيد.

ويبقى “المتنبي” العود الدائم على البدء.

كنت مشدودًا بغموض إلى الإيقاع رغم ما يشرق به صوت فيروز حين يشدو بأمثال:

أنا يا عصفورة الشجن

مثل عينيك بلا وطن

في محاولتي عام 86م لاستكمال امتحانات الجامعة للدكتور الناقد “محمد عثمان علي”، أذكر أنني فشلت في شرح بيت النابغة:

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم

بهن فلولٌ من قراع الكتائب

رغم أنني ملأت الورقة بخُلّب المفردات،

ثم جمعتني الصداقة به واكتشفت أنه من عشاق النابغة مثله مثل عبدالفتاح منصور، ويفضّلانه على طبقات الشعراء الجاهليين،

لم أكن قارئاً حقيقيًّا ولا أحفظ الشعر.

هكذا يلتفت إليَّ صديقي الدكتور عمر بن ناصر حبيب وهو يقرأ نصًّا جديدًا لي، ويذُمُّني في وجهي ممتعضاً بشفتيه: ” عبقريتك يا مهدي في أنك لست قارئا”، ويصدر حسرة الأسف المعتادة..

اعترفت بهذا فكتبت في ومضة لنص ” سيرة ذاتية لطفولة شاعر”:

يعتقد الكثيرون أنني قارئ؛ هي ليست بتهمة، ولكن إقرارًا بالجميل؛ هل تسمحين بنشر تعاليمك؟

كنت أمكث مستغرقًا في قراءة المقالة التي تُعنى بالقصيدة وتتناولها رغم دسامة صوغها، وأُعانيها بشاعريةٍ أكثر من قراءة القصيدة نفسها، لاحقًا اتضح لي أن الحديث عن الشعر هو روحه وشغفه ومجلسه، مهما كانت دسامته ونأيه عن عذوبة السرد وشفيف الحكاية.

___________________________

ودّان. 24 حزيران 2020م.

ذات أمسية على كتف الصديق النديم المعلم عمر بن ناصر حبيب.

مقالات ذات علاقة

محمد زغبية؛ أغنية الميلاد!

أحمد الفيتوري

كلاسيك (100/31)

حسن أبوقباعة المجبري

الحكومةُ الليبيةُ تحاربُ عالمية (غدامس) 2-1

يونس شعبان الفنادي

اترك تعليق