السجن مكان قاس، ومهما كان مراعيا لحقوق الإنسان وكرامته، وحتى مرفها، وحتى لو كان مسموحا للسجين- رجلا كان أو امرأة- باستقبال زوجته أو زوجها، عشيقته أو عشيقها، والبقاء معا عدة أيام، يظل مكانا بغيضا معاديا. السجن مكان معادٍ دائما. خصوصا بالنسبة إلى سجناء الرأي. فسجناء الحق العام يكونون، غالبا، مقتنعين بكونهم ينالون عقابا عادلا على ما ارتكبوه. أما سجناء الرأي فيبهظهم الشعور بالظلم والغبن، ولأنهم مهجوسون بهاجس الحقوق والحريات العامة.
السجن يحتبس الجسد. يُحيِّزه. يُضيِّق عليه. يُقْفِصه. الكيان المعنوي في الإنسان، ما نسميه الروح، يمكنه، إلى هذا الحد أو ذاك، أن يراوغ حالة الانسجان، أو السجنية، ويتفلت منها. لكن الجسد، حين تستبد به المتاعب، يجذب لجام الروح معيدا إياها إلى الواقع الصلب والصلد ويُحملها متاعبه. وحتى الكيان الوجداني، أي ما نسميه النفس، يحاول درء الكدر والسوداوية واليأس، لكن الجسد، عند درجة ما من الانبهاظ، يبث فيها أوجاعه فيصيبها بالاضطراب. فالجسد متاعبه كثيرة. بداية من إفرازاته ومتطلباته الخاصة، وليس انتهاء بما قد يعتريه من أمراض وآلام وأوجاع. الجسد نقطة ضعف المرء التي ما يفتأ السجن يضغط عليها ويهاجمها لتدمير معنويات السجين.
يصبح الجسد، بمعنى ما، معاديا لمجسوده!. لصاحبه. يشترك في التآمر عليه!. في نص بعنوان “انقطاع الأنفاس” من كتابي “سجنيات”* ينادى على سجين لاستقبال ذويه الذين سمح لهم بزيارته لأول مرة بعد اعتقاله منذ أشهر، وهو يتهيأ لملاقاتهم يفاجأ أنه مصاب بحالة إسهال!. فيقول في نفسه: “هذا جسدي يشترك في التآمر عليَّ”!. (ص 54).
بسبب ضعف الجسد يجري التركيز عليه في التعذيب المهني الذي يستهدف انتزاع المعلومات. يحاول الجسد، بإسناد من الروح والنفس، تحمل التعذيب ومقاومة الانهيار، لكن مآله الفشل. انتصاره الوحيد هو الموت قبل لحظة الانهيار!. وحين يفقد الجسد قدرته على مقاومة التعذيب وينهار ويستسلم، تصاب الروح بالخذلان. تفقد طاقتها على دعم الجسد فتُطعن كرامتها في الصميم وتتهاوى هي الأخرى.
في نص بعنوان “إمهال الكرامة” من كتابي “سجنيات” يكابد سجين حالة تعب قوية ويحدث تساند بين جسده وروحه. لكن الألم يهدد هذا التساند بالتعطل والانفصام. يوضع السجين في مقصورة ضيقة بسيارة نقل السجناء. كانت رحلة النقل طويلة تربو على الألف كيلو متر.
“صرت، شيئا فشيئا، أتعب من الوقوف ولا أرتاح في الجلوس. حاولت اتخاذ وضع الجنين فوق الرف وحاولت اتخاذه تحته.
في كل مرة كان التعب يزداد وصرت أشعر بوجع حاد في ظهري.
كان من العبث أن أطلب من الشرطة أن يفتحوا علي الباب ليتيحوا لي التمشي في ممر المقطورة، أو الاستلقاء في المكان المخصص لراحتهم.
قررت أن أتحامل على نفسي وأصبر إلى أن أستنفد طاقة التحمل لدي، لأصرخ بعدها، كأي غريق أو محاصر بالنيران، مستغيثا. كنت في كل مرة أقول لنفسي (أو تقول نفسي لي): بعد خمس دقائق أخرى سأصرخ.
عند انقضاء المهلة الأخيرة، التي منحتها لكرامتي، توقفت الشاحنة عند السجن المقصود” (ص 20-21).
فالجسد يؤجل خذلان الروح. يمنحها مهلة كي تتدبر أمرها، قبل أن يفقد قدرته على التحمل ويتصرف بشكل مستقل.
____________________________
* عمر أبو القاسم الككلي، سجنيات، دار الفرجاني، طرابلس،20122. وأرقام الصفحات الواردة في المتن تحيل إلى هذه الطبعة.