سعاد الوحيدي
أحرق نيرون روما، ليزيل عاصمة مُلكه من الوجود، ودمر المغول بغداد تدميراً، في حدث كان من شأنه أن يؤذن بانتهاء حضارة وقيام غيرها. وأسقط محمد الفاتح الإمبراطورية البيزنطية، التي امتدت لأكثر من إحدى عشر قرناً، عندما أحتل القسطنطينية… الكل يريد العاصمة، احتلالها، تدميرها، الاستهانة بها/ أهانتها…ولا أحد يبالي بمعنى آخر لمدينة كُتب عليها في لحظة من لحظات التاريخ، أن تكون مسرحاً لانتقام/ أو لاحتدام معارك رابحة أو خاسرة، لمجرد كونها عاصمة الحكم القائم حينئذ.
وترزح طرابلس (عروس البحر)، منذ عام تحت وطيس معارك لم يفهم سكانها أسبابها، ولا زمن منتهاها…حرب تتسجل في سياق العبث الإنساني بامتياز.
فإذا كان الاحتدام الدائر على أبوابها، مقصده مركز الحكم، والسلطة/أو الغنيمة، فأن الضحية هنا هي المدينة ذاتها. فطرابلس لم تختر أن تكون العاصمة، ولم يسألها أحد إذا ما قبلت بمركز الحكم عند بابها. وهي لم ترفض أن ينقل “النظام السابق” مركز الحكم الى سرت. وهي لن ترفض اليوم أن تختار ليبيا مدينة أخرى عاصمة لها: وادي الناموس، او زلة، او هون أو أي مدينة جميلة أخرى من مدن ليبيا الزاخرة بالعطاء….
طرابلس غير القذائف والشظايا وجثث القتلى، من نساء واطفال ورجال/ كهول وشباب، تعيش أيضاً مأساة النزوح، فأغلب من فرّ من نيران المعارك، الدائرة على أطرافها، اتجه إلى قلب المدينة؛ حيث السلطة، وحيث الحماية؟ وحيث تكدست في منازل العاصمة أعداد مأهولة من الأسر النازحة إلى حيث الأمان، الى دار السلطان… قبل أن تتدخل كورونا لتجعل من هذا التكدس كابوساً مرعباً، يُضاف للكوابيس التي ما فتئت تفرّخها المعارك، وقذائف الراجمات. وصار قرار حجر الناس في المنازل، يتجسد كمزحة من النوع المّر. فبقاء إعداد كبيرة من العائلات في ذات البيت، مع تهديد عدو فيروسي، وقنابل تسقط فوق الرؤوس، قد يجعلهم، أبعد من خطر الوباء، عرضة لجرائم حرب كبرى، وجرائم ضد الانسانية، الخطر الذي يواجه كل سكان العاصمة.
ففي واقع الأمر، وأيا كانت استراتجيات اللعبة. أو الأسباب التي كانت وراء هذه الحرب الغبية، فهي “حرب على طرابلس” دون أن تختارها. كما أنها لم تختر أن تكون عاصمة للبلد، ولا مركز جذب ولا مطمع، أو غنيمة. طرابلس المكتفية بتاريخها الجميل، وحصونها المنيعة، وأسواقها الزاهية العامرة بالود.. بكونها جميلة مضيافة “ذات السواري”، حاضنة لكل ابناء الوطن. لماذا كان عليها أن تعيش هذه الكارثة؟
ثم ماذا بعد؟ ماذا بعد عام من الوجع والقلق والحصار (وانقطاع الماء والكهرباء، وعجز حال اليد مع شُح السيولة وارتفاع الأسعار…)..؟ وهل يجب أن تخشى طرابلس، غير تداعيات الحصار، والمعارك المتقدة أمام باب الدار، (ودون أي خلفية تعبوية هنا)، سيناريو دخول العسكر لطرابلس، بعد كل هذا الزمن القميء الذي رابط خلاله أبناء ذات الوطن، على ثغور متقابلة كالأعداء. وهل ستنتهي عندها الحرب؟ أم أن حروباً مدمرة ستستمر في شوارع طرابلس الجميلة، وحتى سقوط آخر طوبة فيها؟ ثم أذا ما سقطت في النهاية، هل سيختلف مصير طرابلس عن غيرها من العواصم التي تقع في يد “العدو”؟
ما يمكن التأكد منه فيما يتعلق بهذه الحرب، إن كافة الاطراف قد راكمت عدوات وأحقاداً تم التعبير عنها علناً في أكثر من مناسبة. وصارت أطرافاً عدة تبحث عن الثأر من طرابلس. (كما إن لها ثارات بدورها)، وكأن المدينة قد اختارت ما تعانيه من عدوان. الأمر الذي قد يُخشى معه مواجهة طرابلس لسيناريو مرعب متولد عن الرغبة في الانتقام، إذا ما انتصر الطرف الذي يحاول دخولها اليوم؟
كانت اثينا قد ثارت ضد الرّومان عندما حاصرها سولا بجيوشه، (واستمر في ضربها طيلة اربعة أشهر، حتى جاع الناس، وأكلوا جثت قتلاهم، واضطرت المدينة للاستسلام. ولكن وكأن مثل ذاك الذل لا يكفي، أطلق (سولا) العنان لغرائز جنوده، (ولأنه لم يدفع لهم أجورهم منذ فترة)، ترك لهم حرية نهب ما يريدون، وانتهاك ما يريدون: الأرض/كما العرض. (وفق بعض الوثائق التاريخية، ما أن دخل الرومان أثينا حتى أخذوا في سفك الدماء، دون رحمة ولا تفريق، نساء رجال أطفال….. حتى أن وديان الدماء كانت تتدفق عبر شوارع المدينة).
وعرفت بغداد على يد المغول مصيرًا مماثلاً عام 1258 م، حيث نقل ابن الأثير في تاريخه، أنهم ذبحوا ألف ألف إنسان، حتى إن مياه دجلة والفرات قد تلونت بدماء سكان عاصمة الخلافة، وحيث استباح المغول بعد قتل الرجال نسائهم كسبايا. الطامة الكبرى التي خَص بها القدر المسلمين كما يقول ابن الأثير، وأن كان القدر آنذاك كان يرسم لمسار آخرا، له دلالته التاريخية الإيجابية رغم ذلك. حيث سيقود هذا الحدث بالذات لدخول لهؤلاء للإسلام، وتحول الغازي المنتصر لدين المغلوب لأول مرة في تاريخ الحضارات.
العاصمة الألمانية برلين شهدت بدورها، خلال الحرب العالمية الثانية، نهاية مشابهة على يد الحلفاء. وكان خطاب الزعيم البريطاني تشرشل للنازية، قد هدد المدينة بنهاية مشابهة لقرطاجنة، أن هي رفضت الاستسلام. (ازيلت قرطاجنة تماما من الوجود عندما رفضت الاستسلام، وقتل من أهلها البالغين نصف مليون، (واقتيدت النساء والأطفال عبيدا لدى أغنياء روما)…
وقد سجل التاريخ بالفعل للخلفاء بعد دخولهم لبرلين، أبشع وأوسع جرائم اغتصاب للنساء في تاريخ الحروب. وكأن الحقد الذي كان في صدور الحلفاء تجاه ألمانيا النازية، قد تم تحويله صوب النساء، وجعلوا من جسد المرأة الألمانية ساحة لحروب لم تنته حتى بعد الانتصار. تشير المؤرخة الألمانية مريام غيرهارد في كتابها «عندما أتى الجنود..»، إلى وجود أكثر من نصف مليون رجل وامرأة في ألمانيا لا يعرفون آبائهم. وأن جنود الاحتلال من كل الجنسيات قد قاموا بهذه الاعتداءات.
على أن ما يطبع هذه البشاعات، إنها قد تمت بين أطراف متعادية، متباعدة الانتماءات، بيد إن ما يدور على حدود طرابلس، هو تقاتل بين “أخوة” / أعداء!! وإن صاروا وقوداً لمعارك ما فتأت “تبزل ما بين العشيرة بالدم”. وحيث لن يكون فيها من منتصر، بل كل طرف فيها خاسر لدم الشقيق. وأن النصر الحقيقي الذي يمكن أن يتم في ليبيا اليوم، هو الانتصار للوطن (أن تُترك العدالة الانتقالية تأخذ مجراها/ مجرى الحق والقانون). أن يتوج رأس الأمة بخيار وقف النزف، إلا يُسمح بعد اليوم بموت طفل على مشارف مدينة كانت تكبر “ذات يوم رمضاني ثائر” باسم الله، وباسم الوطن.
وأختم بالقول: طوبى لشهداء الثورة…طوبى لمن كانت له “الحرية” لا غير، المقصد/والغنيمة.