>
استضاف الإذاعي السوداني حسن معوض المعارض الليبي المهاجر الدكتور محمد المقريف في احدى حلقات برنامجه (نقطة نظام ) الذي تبثه قناة العربية وطرح عليه جملة من الأسئلة في الشأن الليبي أجاب عنها الدكتور المقريف إجابات تباينت في دقتها وفي صراحتها وفي أطوالها وفي درجة تركيزها ، الا ان سؤالا واحدا أربكه أيما إرباك نظرا لغرابته وخروجه عن سياق اللقاء باعتباره لقاء يهدف الى تسليط الأضواء على القضايا الفكرية والسياسية التي تشغل الشعب الليبي والتي أدت – أخيرا- الى تفجر ثورة السابع عشر من فبراير، وقد صاغ الأستاذ معوض سؤاله على النحو الآتي: من هي الشخصية الكاريزمية التي ستحكم ليبيا بعد القذافي ؟
ولا ارغب في هذه السطور في الإجابة عن هذا السؤال الاستنكاري وإنما ارغب في النظر إليه من جانبين ؛ من جانب الدلالة ، اعني دلالة السؤال ومن جانب النظر في علاقة الشخصية الكاريزمية بقيادة الشعوب ومدى أهمية ذلك . ولكنني أفضل قبل ذلك ان أقف قليلا أمام دلالة اللفظ من الناحية اللغوية فقد يساعدنا معنى اللفظ على فهم ما يودّ الأستاذ معوض الوصول إليه من خلال طرح هذا السؤال :
كلمة (charisme) هي كلمة يونانية الأصل (charisma)، تعني : جاذبية أو فتنة أو قوة التأثير، وعلى ضوء هذه المعاني يمكننا تعريف ( الشخصية الكاريزمية) بأنها هي الشخصية الأسرة . تستعمل الكلمة غالبا كصفة معنوية لا كصفة مادية ، ولقد دخلت هذه الكلمة الى مجموعة اللغات الأوروبية بقوة في خواتيم العقد الثاني من القرن الماضي ولكن لتأخذ معنى دينيا ومفهوما مطابقا لمفهوم «الهبة الالهية « ولعل ذلك بفضل تأثير الكاتب دانيال روبس (Daniel Rops) الذي استخدم هذا المعنى في نص له بعنوان (الهبات أو الرؤى ) ( انظر: petit robert (Dic.) Ed.1973/ مادة :charisme) .
بل ان قاموس وموسوعة (Hachette /هاشيت) أعطت الكلمة معنى دينيا يخص المسيحيين دون غيرهم من أبناء الله حيث فسرت الكلمة على أنها : هبة غير مرئية ممنوحة من الله الى المسيحي . ويبدو ان اللفظ بات يستعمل حاليا ليعطي معاني تفيد القدرة الخارقة على اجتراح المعجزات ، أو السحر في شخصية القائد يدفع الجماهير الى تقديسه (انظر : قاموس المورد- طبعة /1996م ) ولعل هذا هو المعنى الذي يرغب الأستاذ معوض في الوصول إليه .
هذا فيما يتعلق بدلالة الكلمة من الناحية اللغوية ، فماذا – إذن – عن دلالة السؤال في حدّ ذاته ؟
ان صيغة السؤال ، وطريقة طرحه، والابتسامة العريضة التي رسمها السائل على محياه ، ثم لحظة الترقب كلها إشارات توحي بان السؤال يخفي وراءه عدة دلالات أهمها :
أولا : ان الأستاذ معوض ينظر الى القذافي كشخصية كاريزمية وهذا برهان على انه واقع كضحية للعبة الإعلامية التي حرصت على تلميع القذافي وإظهاره على غير حقيقته .
ثانيا : انه اسقط الصفة الكاريزمية عن شخصية ضيفه رغم ان إمكاناته وقدراته ووطنيته تفوق بكثير ما عليه أحوال القذافي.
ثالثا : ان الأستاذ معوض لا يعرف الشيء الكثير عن ليبيا ، وانه لم ينظر إليها الا باعتبارها منطقة ساخنة وحدثا داميا ، ولو كان على اطلاع كاف على تاريخها السياسي والثقافي لعثر على كثير من شخصياتها الكاريزمية التي لا تقبل المقارنة مع تلك الشخصية ذات الكاريزما المفبركة.
رابعا : في الفترة التي أذيعت فيها الحلقة المعنية من البرنامج المذكور كانت قناة الحرة ، والجزيرة ، والعربية وقناة (B.B.C) وغيرها من القنوات العربية تذيع. سلسلة مقابلات ومحاورات مع عدد من رجال المعارضة الليبيين أماطوا فيها اللثام عن قدرات مخبأة في مجالات الفكر السياسي والإستراتيجيا وإدارة الأزمات ، فضلا عن حلاوة الهيئة، وذلاقة اللسان ، والقدرة على التركيز والإبانة فنالوا بذلك إعجاب الخبراء والأساتذة الأجانب الذين ساهموا معهم في تلك المحاورات . وخلف هؤلاء ثمة رجال آخرون يشكلون المجلس الوطني الانتقالي وجلهم اكاديميون وأساتذة في ارقى الجامعات الأوروبية والأمريكية ، ورغم ذلك فالأستاذ معوض لم يجد في أيٍّ منهم شخصية كاريزمية تملأ عينيه .
أما النظر في علاقة الشخصية الكاريزمية بقيادة الشعوب فذلك يستوجب – أولا – السؤال عن المقومات التي تؤسس الشخصية الكاريزمية وهو سؤال يمكن ان نستقي الإجابة عنه من الآثار الأدبية القديمة حيث تعرض علينا الدراما اليونانية واللاتينية نماذج من الشخصيات الكاريزمية وهم جميعا من طينة الملوك والنبلاء والقادة توحد بينهم صفات جسمانية واحدة كونهم رجالا طوال القامة عظماء الهيئة ، وقد كان الممثلون يظهرون على خشبات المسارح اليونانية والرومانية وقد اعتلوا القباقيب العالية ودعموا صدورهم وكروشهم بقطع من الأقمشة لتبدو أحجامهم أضخم من أحجامهم الطبيعية ، ومازال الفن الدرامي (مسرح/ سينما / تلفزيون) يختار ممثلين يتميزون بهذه الهيئة ليسند إليهم مهمة تشخيص تلك الشخصيات الدرامية العظيمة فكان ان انعكست كاريزمية تلك الشخصيات الأسطورية على أولئك الذين جسدوا تلك الشخصيات . لقد أخذت هذه الهيئة الضخمة دلالة الهيبة والعظمة والقوة حتى ترسخ هذا المفهوم في الذهن الشعبي بحيث شاعت تعابير وأمثال تستحسن هذا النوع من الأجساد بقولهم ( فلان – ما شاء الله – طول بعرض) وإخوتنا المصريون يقولون (فلان مالي هدومه) فإذا كانت هذه احدى مقومات الشخصية الكاريزمية فانه بإمكاني ان اذكر العديد من الشخصيات التي لا صلة لها بهذه المقومات الشكلية يأتي في مقدمتها نابليون بونبرت ، وفلاديمير لينين ، وماو تسي تونغ ، وشنوان لاي ، والحبيب بورقيبة ، وشامير وهؤلاء جميعا شخصيات كاريزمية أدت دورا ما في تاريخ أوطانها .
وإذا كانت مقومات الشخصية الكاريزمية هي ذات المقومات التي تسعى السينما الأمريكية الى تصديرها وتسويقها ، والمعتمدة على الوسامة وجمال الصورة وجاذبية المظهر فان رجالا علي غير هذه المواصفات مثل غاندي وهو شي منة ، وخروتشوف كانوا شخصيات كاريزمية بكل معنى الكلمة.
وإذا سلمنا جدلا بان الضخامة والجسامة والوسامة هي الدعائم التي تنهض عليها، أو على بعضها ، الشخصية الكاريزمية فانه من الصعب التسليم بان هذه الدعائم تقف وحيدة دون روافد تسندها، وهذه الروافد هي عبارة عن قيم مكتسبة و ليست هبة لدنية ..إلهية فقط ، روافد باطنية وليست ظاهرية ، جوهرية وليست شكلية ويمكننا تدعيم هذا الرأي بعدة نماذج أسطورية و تاريخية خلدها الأدب الإنساني كشخصيات كاريزمية تميزت بالوطنية والشجاعة والأمانة والحكمة والعدل والصدق في القول والعمل ، وتغليب الواجب علي العاطفة. وقبل ذلك الكفاءة والقدرة على انجاز الأعمال التي انيطت بهم .. تلك هي المقومات الحقيقية التي تؤسس الشخصية الكاريزمية، وهي جميعها مقومات سامية ليس للعقيد القذافي نصيب في أيٍّ منها.
وطالما ان المقومات المؤسسة للشخصية الكاريزمية هي مقومات مكتسبة فذلك برهان على دور الزمان والمكان والأحداث في صنع شخصية الفرد وفي صنع مواصفاتها، ومن هنا يتبدى لنا الخلل في حكمنا على الفرد خارج المحيط الذي يعيش فيه وما يفرز هذا المحيط من معطيات وظروف اقتصادية وسياسية وثقافية، ولكي نكتشف الشخصية الكاريزمية التي ستقود ليبيا بعد القذافي علينا ان نمنح الليبيين فرصة التعامل مع تلك المعطيات ، وما على الأستاذ معوض الا الانتظار والمراقبة .
وهكذا نصل الى جملة من الحقائق مفادها :
• ان الشخصية الكاريزمية هي مسالة شكلية لا تعدو عن كونها بروازا يحيط بصور بعضهم وغالبا ما يكون أجمل من الصورة ذاتها
• ان إلصاق الصفة الكاريزمية بالحكام والرؤساء ما هو الا اختراع عربي سخيف يهدف الى خداع الجماهير وتضليلها.
• انه لا أهمية للشخصية الكاريزمية في مسار الثورات ، إذ ان الشعوب لا تبحث من خلال ثوراتها عن شخصيات تفتنها وتسحرها وتقدسها ولكنها تبحث عن شخصيات وطنية ذوات قدرات وكفاءات تقودها الى مجتمع أفضل يكفل للمواطن حرية الاعتقاد والتفكير، ويمنحه حياة كريمة ترفرف فيها السعادة على رؤوس الجميع بأجنحتها الآسرة .. وذلك هو الطموح الأعظم الذي سعت إليه الشعوب العربية حينما اعنت عن زمن ثوراتها في ذاك الربيع الأجمل .
___________________
عن صحيفة فبراير/ العدد 100/ 12-01-2012