حوارات

القاص محمد زيدان/ المفكرون كائنات شبحية..

القاص الليبي محمد زيدان:

المفكرون كائنات شبحية..

حاورته / خلود الفلاح

الشاعر: محمد زيدان

مبدع مسكون بكل ما هو جميل بمحبة يكتب كلما دعته الكتابة إلى نورها هو المنشغل بتمردها.. ثمة مساحات واسعة في نصه للركض وراء دهشة ساكنة في ركن قصي.. الكتابة لديه يتداخل فيها الشعري بالقصصي. الغياب يرافق أزمنته البيضاء. يشتاق للمطر مساء. له موقع على شبكة المعلومات العالمية اسماه حالات .

حالات صراخ مستمر

– هل وجودك في تلك الرقعة النائية بالجنوب الليبي (ودّان) كان سبباً كافياً لابتكار وسيلة جديدة للاتصال بالآخرين. فكان موقع حالات المحاولة والتجربة لقول شيء ما؟

– ربما.. رغم أنه لم تعد هناك رُقع نائية حسب فرمانات العصر الجديد ومراسيمه المُبرمة. الفاصل شعوري أكثر منه أي شيء آخر، والعزلة عزلة مجاز كما أفهم، كما أن المسافات بين العالم (الافتراضي) والعالم (الاعتراضي) تقاطعت وتداخلت بشكل يدعو للصراخ حقاً..!

لقد تغيرت خارطة العالم تماماً. ذابت الفواصل وتلاشت الحدود بفعل (خبث) وسائل الاتصال الحديثة وتقنياتها الماكرة، وأصبحت الخطوط والتقسيمات الجغرافية مجرد علامات كروكية باهتة وبلهاء، فيما اتسعت المسافات في داخلنا وتباعدت بشكل مخيف.

ما رأيك؟ أنا لم أعد أشعر بذلك البعد السحيق بين طرابلس وطوكيو أو بين ودّان وميتشجان مثلاً في ظل ما يحدث من (ضغط) على حواف الخارطة، لكني أشعر بانفلات حقيقي ومرعب للمسافات التي تصل بيني وبين نفسي. إنها حقيقة (الاتصال – الانفصال) التي نعيش، فبقدر ما قربت وسائل الاتصال بين الإنسان والإنسان، زرعت في الوقت ذاته فواصل مربكة ومسافات ملغومة بين الإنسان وذاته، ولعل هذا ما يبعث في داخلي تلك الدهشة السرية الغامضة وذلك الخوف الخرافي اللذيذ حين تدور الكرة السحرية بين أصابعي وأتلمس وجوه وملامح ساكني هذا الكوكب وأعيش في الوقت ذاته هذا الانشطار العظيم الذي يحدث بداخلي.

لم أعد أرى البحر كبيراً ولا السماء بعيدة كما كانت تخبرني فيروز. لم يعد شيء بعيداً، ولم يعد شيء قريباً أيضاً. وربما لو كنت مواطناً يابانياً كنت سأفكر أيضاً في الخروج من بيت النمل العظيم والبحث عن مناهل أخرى بحثاً عن وجهي الضائع في ملامح الآخرين..! أنا فقط أشتاق إلى ذلك الولد الذي كان يخلع حذاءه ويختلس هروبه من البيت ليركض وراء زرازير الحقل ويتمرغ على العشب أو يصعد إحدى قمم جبال “الرّواغة” الشاهقة ليطلق صراخه في وجه السماء دون أن يسمعه أحد. لا زلت أبحث عن ذلك الولد ولا أجده. سمعت مؤخراً أنه سقط في فخ المدينة الماكر بضجيجها وزعيقها ودخانها المسموم الذي لوث السماء القديمة، وأنه لم يعد قادراً على العودة إليّ. ربما ضل طريقه، ربما صراخي لا يصل إليه..!

ما علاقة هذا بسؤالك ولماذا أزج بالقارئ في متاهة البحث عن ذلك الولد “الخفيف”..؟! لا أدري. إنها متاهة مُحكَمة الأبعاد حقاً وأنا بالفعل لا أدري ما الذي يحدث، لكنني أستطيع أن أقول لك أنه في سياق مضطرب ومتناقض كهذا كانت فكرة تأسيس وإطلاق موقع حالات، ببساطة، وهدوء، وعلى مهل، كمحاولة/ تجربة لتجنيح وتصعيد وتائر الصوت الذي يضج بداخلي على نحو هادر ولا أدري سره.!

– موقع حالات صراخ مستمر في وجه كائن بليد اسمه الموت. أي آفاق مستقبلية تلوح لك خاصة وإنك تعمل بالمجهود الفردي في ظل هذه التكنولوجيا المتسارعة الخطى؟

– الصراخ مستمر، لا شك، حتى الوصول أو انفجار الحنجرة. (انفجار الحنجرة وصول أيضاً كما أفهم). لا يهم بالنسبة لحالم عربي متى يصل (ذلك متاح لآخرين يعملون ويتعبون ليعلموا عدد السنين والحساب!)، الأهم بنظري هو استمرار الصراخ والوصول إلى أية نهايات، لا فرق.

عن المستقبل.. أعتقد أنه لا يمكن التكهن بأية آفاق مستقبلية (في كل شيء) إلا إذا نجحنا فعلياً في علاج عاهتنا العربية المستديمة التي تشوش علاقتنا بالزمن. صدقاً نحتاج إلى (ضبط) معدلات الشعور بالزمن من حولنا. زمننا استاتيكي غالباً، وفي معظم أحواله هو زمن مضطرب تتداخل فيه كل الأزمنة.. الماضي، والماضي، والماضي فقط..! لا وجود لمفهوم الحاضر أصلاً، نحن لسنا متصالحين مع الحاضر فكيف بالمستقبل..؟! أعتقد أنه مشهد غير صالح أن يرث الله الأرض ومن عليها يوماً ما، ونطير نحن إلى السماء مصحوبين بالبلاهة والذهول وساعات الأجداد تحوط معاصمنا.!

لست متشائماً، لكنني أؤمن تماماً أنه لن يكون لدينا أي مستقبل ذي سمعة حسنة ونحن نفتقد شهادات (خلو من السوابق) في هذه العلاقة المميتة بين الإنسان والزمن. أما عن حالات والمجهود الفردي وو.. كما قلت لك. عليّ أن أحلم وأصرخ بشكل مستمر دون أن أشغل نفسي ببلبال الزمن العربي الرديء ومتاهاته القصية المربكة.

– حالات وغيره من المواقع الثقافية المهتمة بالتعريف بالأدب الليبي. ألم تلاحظ أنه لم يحتف بها في صحفنا والملاحق الثقافية؟

– دعينا نحدد الأشياء..! أي صفحات وأي ملاحق ثقافية تقصدين؟، إن كنتِ تقصدين الصفحات والملاحق الثقافية الليبية، فهذا أمر موجع حقاً، لأنها غائبة تماماً، لدرجة أنني أتصور أن مسئول هذا الملحق أو غيره سيطردني إن ذكرت كلمة (إنترنت) أمامه بحجة أنني أشتمه بلفظٍ نابٍ دون وجه حق..!

لابد من الابتسام

– كقاص. ألم تفكر في إنشاء موقع للقصة في البدء كموقع جهة الشعر للشاعر قاسم حداد؟

– وأنتِ تنامين. هل حلمتِ مرةً أنكِ نائمة..؟!

يا صديقتي، ليس ثمة أسوأ من بيع الأحلام للنائمين. المؤسسة لا تعترف بالأحلام، رغم أنها تنام طويلاً وتمشي أثناء النوم وتشخر بطريقة فظيعة تذكر بعلامات قيامة آتية..!، وأنا أسأل نفسي: هل يمشي الموتى حقاً، ويشخرون إلى هذا الحد..؟!

حلم بناء موقع بحجم جهة الشعر أو غيره من المواقع المتخصصة ليس أمراً سهلاً ولا يمكن أن ينجزه حالم بمفرده لأنه جهد مؤسساتي يستحيل سقوطه من جيب السماء دفعة واحدة أو من قبعة رجل يتسكع على الرصيف دون رفاق ويغني وحيداً. يتطلب الأمر إيقاظ مؤسسة كاملة من نوم يشبه الموت. وأسألكِ أيضاً: بنظرك، كم نحتاج من قيامات صغرى وكبرى وكم نحتاج من أعراس نقيمها على رأس المؤسسة كي تصحو..؟!

علي أن أحتفي بكل أحلامي على كل حال، وأحبها، حتى الكوابيس أحبها لأنها جارة الحلم وقطعة منه، ولأنها – بشكل ما – استعلاء جميل وشفيف على لغة الواقع ورداءتها الصاعقة. عليَّ أن أحلم، وعلى العالم أن يكون خارج رأسي تماماً حين أفعل. / فقط.!

– لديك عدة أحلام (إنترنتية) منها ما يهتم بالتعريف بالأدب الليبي والآخر أدباء مؤسسون. إلى أين وصلت تلك الأحلام؟

– الأدب الليبي متميز جداً وله خصوصية إقليمية وكونية مشهودة، وربما أستطيع أن أقول أنه الأدب الأفضل حظاً والأسوأ حظاً في الوقت ذاته. حسن حظه يكمن في ثراء أصوله وتنوع أطيافه حيث كانت ليبيا مصباً لحضارات عالمية حافلة كالرومانية والفرعونية والفينيقية وغيرها.. ليبيا كموقع جغرافي تشكل سرّة ينابيع حضارية، ترفدها من الشرق ثقافة المشرق العربي والمغرب العربي غرباً، جنوباً ليبيا هي بوابة قارة أفريقيا وكذا لا ننسى امتدادها الساحلي شمالاً على حوض البحر المتوسط وقارة أوروبا.. أما سوء حظ هذا الأدب فيبدو واضحاً ولا يحتاج إلى تعليق..!

عن الأدباء المؤسسين. بدأت اتصالاتي منذ فترة مع مجموعة من الأصدقاء بهذا الخصوص، واستطعت بعلاقات شخصية الحصول على بعض أعمال هؤلاء الأدباء. المشكلة أن المؤسسة التي تملك آراشيف هؤلاء الأدباء ومخطوطاتهم لا تستجيب لأي نداء، لأنها كما قلت لك، نائمة (ألا تسمعين شخيراً في الجوار؟!).. ولأنني كما قلت لك أيضاً لا أستطيع أن أقيم فوق رأسها عرساً يليق بصحوها المستحيل.. لوحدي..!

أعود وأخبرك أنني سآوي إلى حلم يعصمني من الواقع. عليَّ أن أهندس أحلامي وأعيشها بطريقتي. الحلم ملاذي الحقيقي ووطني الآمِن.. ألا يكفي أن الواقع يهرب منا ويفلت متسرباً من بين أصابعنا. لو فرطنا في الحلم سنفلس تماماً ونموت.!

– تتهم المواقع الثقافية تحديداً بأنها تنشر لأنصاف المبدعين والغير معروفين على المستوى المحلي. كيف ترى المسألة من واقع التجربة؟

– لا يوجد بنظري نصف مبدع وربع شاعر وثلاثة أرباع فنان.. المبدع صاحب إضافة، ويأتي كاملاً كأي لعنة تامة. أما عن موضوع الاتهام، فالقصة أبعد بكثير مما تنشره المواقع الثقافية.. الاتهام يطال مشهد السقوط بأسره ولا يستثني أحداً.

يا صديقتي، ماذا يمكنني أن أقول حين أشاهد ما يحدث في “كلام نواعم” و”ستار أكاديمي” و”ربيع الشاعرات” وغير ذلك من فنتازيا الرداءة العربية الجديدة، حيث يخرج لنا الحواة من أكمامهم أجمل الشاعرات وأدهى النقاد وأحلى المطربين وأعظم روائيي العصر في رمشة عين..؟!

الأمر يشبه تلبيسات السحرة، ومكنات تفريخ العظماء تعمل بدأب فظيع..! ماذا يمكنني أن أفعل سوى أن أشبك يدي وراء ظهري وأمشي منكساً رأسي، وأنا أبتسم..؟!

نعم. يجب أن تحتفي المواقع الثقافية بالعم محمود أيضاً ليستعرض فحولته الشعرية الهابطة. ما المشكلة، وهناك ألف ناقدة (عصرية) تطارده وتتربص بنصوصه وتكتب عنها كما لم يكتب فوكو ودريدا في أيامهم الحزينة..؟!، ولماذا لا ينشر رؤساء تحرير المجلات والمواقع الإلكترونية للشاعرة (قطرونة بنت أبو منيع الخرساني) وهناك سبعون ناقداً تفكيكياً وبنيوياً ينتظرون وراء الشاشة ويمسحون لعابهم بأكمام قمصانهم الوردية لتقطيع أوصال نصها المذهل..؟!

زوادة ثقافية

– برأيك كيف سيتحدث المفكرون عن أزمة الثقافة العربية في عصر الوسائط المتعددة للنشر؟

– إن كنتِ تقصدين المفكرين العرب، فأنا لا أدري حقاً أين هم المفكرون العرب أصلاً..! ثلاث أرباع من نسميهم (مفكرين) هم كائنات شبحية لا علاقة لها بما يدور في هذا العصر. دعينا نتحدث عن مثقف عربي. شاعر عربي. كاتب عربي.. أما تلك المصطلحات المفخخة من نوع مفكر، ناقد، فيلسوف.. إلخ.. فأعتقد أنه علينا إعادة النظر جدياً والتفكير طويلاً قبل التورط في مغبة الإطلاق..!

يوجد لدينا مبدعون كونيون، لكنهم يبدون كخامات مبعثرة تماماً، فيما نفتقد في حقلنا الثقافي بوضوح فاقع لخاصية التفكير، النقد، التفلسف.. لدينا شعراء ومثقفون وكتاب ووو.. وهذه مراكمات مطلوبة الآن لجهة التأسيس والتوثيق على الأقل، لكن على مستوى النقد والتفلسف والتنظير، مع احترامي لبعض المحاولات طيبة النوايا سيئة الحظ، أستطيع أن أقول أن كل ما يحدث هو اجترار وتكرار وإعادة صياغات لسوابق فكرية حادثة تكاد تكون منسوخة حرفياً (كي لا أقول منهوبة) إما من ثقافات أخرى وافدة كما يحدث في منهجيات النقد الفرنسي الحديث مؤخراً وغيرها، أو من (زوّادة) ثقافتنا القديمة.

لقد فضح ما يُسمَّى بـ (موت الأيديولوجيا) المفكر العربي تماماً، وثبت أن ما يُسمى بالمفكر العربي ما هو إلا إسفنجة.. طحلب أو (عليقة) طفيلية لا تعيش إلا في الترع والسبخات..!

أين هو المفكر العربي في ظل ما يحدث من أزمات..؟ إنه مشغول بالخروج من أزمته الخاصة، أو هو في أفضل حالاته منشغل بخلق أزمة جديدة وتصديرها. وأين هو الناقد العربي في هذا الفائض التجريدي من النصوص..؟! إنه مشغول بتوظيب واجهته وتلميعها إرضاء لشلته وفريقه أو منشغل بمداراة كبته الجنسي ولهاثه وراء أصحاب النصوص أنفسهم، لا نصوصهم ذاتها..!

الفكر المقروء الآن هو فكر هلامي تماماً ولا ملامح محددة له، والنقد هو نقد استيهامي، استرضائي في أغلبه، وعلى طريقة انسخ والصق..! هذا مضحك طبعاً رغم ما يسببه من إرباك مؤلم. وأعيد، عليّ احترام (بعض) المحاولات طيبة النوايا المحفوفة غالباً بالقصور المنهجي وسوء الحظ، حتى لا أقع في شرك الحماس المفلوت والإطلاق التعميمي المُخِل على الأقل..!

أطواق الجاذبية الأرضية

– هل هناك أشياء واقعية وأخرى مثالية تزين نصوصنا أم أن العمل الإبداعي عامة محاولة توقيع الوقائع؟

– لا أعتقد أن هدف الكتابة بالدرجة الأولى هو تزيين الواقع أو تشيينه، وإن كنتِ تذهبين في اتجاه اللغة، ربما، فدعيني أقول لكِ أن اللغة فخ ماكر جداً أنا شخصياً أقع فيه كثيراً.

عموماً، عن (الواقع) و(المثال)، أعتقد أن الإنسان ينحو في أدائه الكوني وبطريقة فطرية تماماً إلى مسلك ثنائي، مركب، مزدوج ومتناقض بحكم كينونته المركبة بطريقة ثنائية أصلاً. الواقع والمثال، الذات والآخر، الضعف والقوة، الكره والحب، النوم والصحو، الموت والحياة، التردد والاندفاع، الروح والجسد، السقوط والارتفاع، إلخ.. والمبدع إنسان في نهاية المطاف. نص محفوظ يتمرأى في رقعة نص مكتوب. كل شيء في الكون (عدا المبدع الأول، الله، الذي خص ذاته بالفردانية المطلقة) موسوم بثنائية التكوين وتالياً الأداء، والمبدع/ الإنسان في أقصى حالات إبداعه يتذبذب بين هذين الخطين المتوازيين ولا يستطيع الإفلات منهما والانطلاق خارجهما إذ لا أفق بعد أفق الإنسان إلا أفق الألوهة. من هنا يقفز الحلم، المثال، كمحاولة للكسر والتمرد والصعود والتحليق. في هذا السياق ربما أستطيع الاعتقاد بشكل شخصي على الأقل أن الحب باعتباره توجهاً كليانياً نحو آخر ما، هو محاولة الإنسان الأزلية تحطيم أقفاص الذات والخروج من مغاورها المظلمة والالتحام بهذا الآخر في فضائه.. هذا يعكس قلق الإنسان وضيقه بكثافة الأسوار من حوله، يعكس رغبة الإنسان في التمرد والرفض والتحليق خارج ذاته، واقعه، بكل ما تشكله هذه الذات وهذا الواقع من ضغوطات، ربما يعكس هذا أيضاً شهوته لإنجاز ذاته على نحو أكثر اكتمالاً.. لتحقيق معادلة التوحد والوصول إلى أفق الألوهة.! وهذا يبدو واضحاً بنظري، إذ كلما نجح الإنسان في التخارج عن ذاته والاقتراب من الآخر والشعور به من داخله، كلما أنجز وصوله وكان مبدعاً. لا أتحدث قطعاً عن (الذات) بمفهومها القريب بقدر ما أتحدث عن (التذاوت) بمعناه الأبعد.. أن ينثر الإنسان رماده على الآخر ويهيل ذاته عليه. أتحدث عن ذاتي التي لا أراها إلا في عين الآخر. الآخر الذي هو مرآتي. الآخر الذي هو شرط وجودي وكينونتي ذاتها. إجمالاً كل من ينجز انعتاقه من ربقة الذات يقارب أو يستشرف أو يصل. إلى أين، لا يهم، لأن الإنسان كائن مشروط بالمقدمة، يمتلك مفاتيحها، لا النتيجة. المهم فقط لدى الإنسان هو الوصول. ومن هنا فالحلم والمثال واليوتوبيا والجنة وو.. هي رغبات الإنسان في التحرر من سطوة الواقع الصلد، المادة، الحس، يتبرم الإنسان بضيق الواقع من حوله ويعجز عن كسر أطواق الجاذبية الأرضية فيجترح المثال، الحلم، وينص عليه. بصفة عامة أعتقد أن الإنسان يظل مأسوراً لثنائية تركيبه وبالتالي لازدواجيته وتناقضه. آدم مثلاً، كان غاطساً في المثال، الجنة، الفردوس، إلى أذنيه، لكن ثنائيته المربكة وازدواجية تكوينه أوقعته في مأزق السفر المبكر جداً إلى الأرض وتعرفين كم كان مكلفاً هذا الأمر.

كعادتي أخرج من الموضوع..! عموماً أعتقد أن توقيع الوقائع يتعلق بمهام تأريخية بحتة يزاولها منذ القدم شخص يمنحه قومه لقب (مؤرخ) ويخلع عليه أعداؤه لقب (كاذب).! هذا المؤرخ يفقد حياده وموضوعيته وبالتالي مصداقيته كلما انحاز إلى جهة الإبداع. على المؤرخ أن يكون بليداً وأميناً لواقعه وبعيداً عن هاجس الإبداع (باعتباره إضافة)، وعلى المبدع أن يكون متواطئاً وخائناً لواقعه لكي ينجز ذاته ويعالج تورماتها.

سمة المواربة

– الأزمنة، الأمكنة، الشخوص والمدن. مكونات النص الإبداعي كيف تتواصل معها في أعمالك القصصية والشعرية؟

– آه الزمن.. هذا البلبال المربك، العصي والجميل.! أعتقد أن الزمن كمفهوم فلسفي عام هو الهاجس الأكثر حضوراً والتباساً في وعي المثقف العربي المعاصر عموماً، بما يمثله هذا المفهوم من قيم وما يحمله من دلالات وما تعكسه حركته الفاعلة من تحديات (لا تزال) تفرض شروطها وتطرح رهاناتها على واقع هذا المثقف ومرجعياته، بل رؤاه ونتاجاته على حد سواء. هذا المثقف (الشاعر، الروائي، القاص، الصحفي، الطبّال أو الكاتب العمومي حتى..) لم يستطع حتى الآن (لم يحاول) الخروج من أزمة الأزمنة التي تقبض على خناقه وترهق وجوده، وسر ذلك أن هذا المثقف رغم تجاربه التاريخية المريرة لم يعِ بعد مطروحة الزمن ودينامياتها وشروط اشتغالاتها الخفية التي تؤسس باندراجها القار في واقعه كيانه إزاءها، وتشكل بانشراطها الموضوعي على حركته مطلوقات إمكانه وفعله حيالها وفيها. ثمة شروط كثيرة تفرضها مطروحة الزمن على واقع المثقف العربي إجمالاً، منها مثلاً: شرط التقابل (الوجود)، شرط البناء (التراكم)، شرط التبادل (الفعل)، شرط الموضوعية (الحياد)، شروط تصرخ في واد، فيما حبيبنا المثقف (هذا الطيب جداً) ينام في وادٍ آخر..!

إن الحديث عن الأزمنة هو حديث شقي فعلاً، سيجرنا للخوض في متاهة حوارية لا يسمح المجال بالتورط فيها. لكن أقول لكِ أننا (كلنا) نيام في الزمن الأول..!

الأزمنة تفلت وتتلاشى، فيما تتكاثف الأمكنة إلى حد خانق جداً. لو سألتِ أي سجين عن علاقته بالأزمنة والأمكنة فستقرأين في إجابته هذه الحقيقة. ستدركين أن أصابعه تنبش في الذاكرة ولا تطال أي أزمنة خارجها، فيما تتطاول الجدران، الأمكنة، الحصون، المدن، وتضيق. ستعرفين أن المثقف العربي إجمالاً هو مثقف المكان، لا الزمان. وإن حدث فهو فارس الأزمنة الغائبة. الزمن الماضي، الأول، الجد، القبيلة. زمن الإله الذكر. زمن الموتى الماثلين في صباحاتنا. زمن الشعارات والعشائر والشعائر..!

الشخوص، هم الذين نحكي عنهم، وهم شخوص سمتهم المواربة، أتعمد دائماً تأسيس ذات أو ذوات موازية أُسقِط عليها عقدي وأشيّع عبر صوتها محمولات هواجسي وهمومي وكبتي التاريخي الطويل. أما المدن فمقفلة. جافية تماماً. عني، أتحرك وسط المجموع بكل هذا الثقل غير الحميم، أحاول استشراف أزمنتي وأمكنتي وشخوصي الأخرى ويستعصي كل هذا. فقط، لأنني أنا.

إعــلان الــسر

– ثاقوف. هذه الرواية المبتورة كما تقول. حدثنا عن أجوائها الإبداعية؟

– ثاقوف هو اسم بئر قديمة في الصحراء المحيطة بودان. بئر منسية، مغطاة بالرمل وصمت الأجيال ومجهولة لكثيرين من أهل المنطقة أنفسهم الذين يتناقلون مرويات الأولين وأخبارهم عن هذه البئر العجيبة المحفوفة بالأساطير والأسرار.

عموماً لا أدري كيف أخبرك عن سر بئر..! دعي الآن سر ثاقوف في حلقها الغاص بالرمل والحكايات العجيبة، ودعيني أقول لكِ أن سر ثاقوف محفوظ في بئرها، وأعدكِ حين أجد الفرصة المناسبة ويخرج هذا العالم من رأسي قليلاً أن أرسل إليك بالسر (المُعلَن) كاملاً..!

مغامرة مربكة

– الماء ليس أكيدا. أتعتقد أن الغرابة و التناقض في العناوين من السمات المميزة لاعمالنا الإبداعية؟

– لا تشكل الغرابة ذلك الهاجس المغري بالنسبة لي بقدر ما أجدني مغوياً بدلالة العنونات نفسها. قد أضع عنواناً لا علاقة مباشرة له بالنص. (هل يشكل هذا أي غرابة؟!). العنوان الفخ، العنوان الذي يُقرأ كنص قائم بذاته، الذي يُقرأ بمعزل عن النص ولا يكون عالة عليه هو هاجسي. العنوان الذي يضحك مني بعينه اليسرى ويبكي علي بعينه اليمنى. أكثر ما يرهقني هو العناوين البسيطة، أظل أتعثر بها طويلاً لكنني لا أعثر عليها بسهولة، وغالباً ما تفضح العناوين هاجساً ما لدي. العنوان متاهة مُحكَمة الأبعاد رغم سهولته الظاهرة، وهو مغامرة مربكة تضاهي في صعوبتها واستحالتها مغامرة الكتابة أحياناً وتفوقها.

بعض العناوين يشكل بالنسبة لي لعنة حقيقية تظل تطاردني أينما هربت. حين عنونت مجموعتي الشعرية الأولى “الماء ليس أكيداً”، مثلاً، لم أستطع القفز على الهاجس اللعين الذي يسيطر على حياتي كلها. (الماء). أنا أعيش في واحة خضراء تزنر خصرها آلاف أشجار النخيل الرائعة والمهددة بالجفاف خلال أقل من عشرين سنة قادمة. أول قسم كان بيني وبين حبيبتي كان بالماء الأكيد. الأطباء يقولون أن الماء سيقتل أبي وقد فعل حقاً. ثاقوف أيضاً تلك البئر الأسطورية التي أعيشها كهاجس كتابي مستمر. أتذكر أنني سلمت صديقي الشاعر عبد الوهاب قرينقو نسخة من مخطوط مجموعتي “الماء ليس أكيداً” ليسلمه بدوره مع مخطوط مجموعته إلى دار النشر بطرابلس، وضع عبد الوهاب المخطوط في شقته وخرجنا معاً لنكمل سهرتنا في إحدى المزارع، حين عاد وجد شقته غارقة بالماء..! عبد الوهاب الحريص جداً في أمور كثيرة لماذا ينسى في تلك الليلة تحديداً صنبور الماء مفتوحاً في شقته.؟!، بالله عليك.. أليس الماء لعنة حقيقية.؟! هل حقاً كنا نتحدث عن غرابة العناوين قبل قليل..؟

مقالات ذات علاقة

شراكة استراتيجية بين مركز المناهج التربوية والمشروع الوطني للتراث المادي وغير المادي

حنان كابو

الروائي محمد الأصفر: اللغة هي أسلوب الحياة

المشرف العام

الروائي الليبي صالح السنوسي: اعتمد على الموروث الشعبي في كتابة رواياتي

المشرف العام

2 تعليقات

عبدالوهاب قرينقو 5 يونيو, 2024 at 02:16

ياريت خلود توضح لنا ودان رقعة نائية عن شني؟ عن بنغازي والا طرابلس؟.. وهل على الكاتب أن يعيش في إحدى العاصمتين ليكتب يتفاعل مع الحياة ويعيشها.
على فكرة راهو ودان مهياش في أقصى الجنوب بل في وسط البلاد الليبية.

رد
المشرف العام 5 يونيو, 2024 at 06:58

نشكر مرورك الكريم…

رد

اترك تعليق