سرد

شفرة لوتوفاجي (5)

من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي
من أعمال المصور الفوتوغرافي طه الجواشي

لَمْ يكُن والد (للّة) رجلاً بَسيطاً كما كان يتراءى لهم في الجلسات قرب جنان الفلفل الذي يُحب رائحته، فهو أيضاً كان يطمحُ أن يقايض ابنته بما يتناسب مع جمالها تركي الأصل وكونها ابنة (البَيّ) كما يناديه المقربون منه ويوحي بذلك مظهره الخارجي، لكنه يملك قلباً كالحجارة أو أشدّ، أمرٌ يُخبرك عنه جيران (السانية) من بُسطاء الحال، فغالباً ما يرونه متجولاً مرتدياً سروالاً قصيراً وقميصاً وجورباً وحذاءً من الجِلد، مظهرٌ يُحاكي ما يرتديه الجيش الإنجليزي، تتدلى من فوق ظهره بندقيّة (مقرون) يطلق منها طلقات تحذيرية لمن يحاول من عمّال اليومية المرور خلال أرضه في طريقهم (للقربيات).

هذه القساوة لمسها شيخ المحلة عندما جاؤا لطلب يد (للّة) فبعد ترحيب الخدم بهم والوليمة والتي أشبعت نَهمه للحم الخروف وإن منعه خجله وعدم معرفته الأكل بموس وشوكة من الفضة إضافة ونظرات (البيّ) الحادة من ممارسة هوايته المفضلة في مصّ نخاع العظم، فكانت في نفسه حسرات أخذت منه سنوات وهو يرددها قبل كُل وليمة يُدعى اليها.

قسوته لم تكن شيئاً غريباً فهي تتبع ثقافة آمنت بها طائفة مُغلقة ثلاثية الأفرع، عثمانية، إيطالية، انجليزية، حبّه للفرع الأخير كان واضحاً في حنقه على صاحبُ فكرة الطاحونة التي يراها مدخلاً لسيطرة إيطالية، ومداهنته للأولي كون زوجته تنتمي لها دماً ولحماً.

لكن وإحقاقا للحقّ انتزع شيخ المحلة الأضواء وكان نجم المناسبة دون منازع، فقد دافع عن فكرته بدخول العريس مدرسة البوليس فهي ليست حباً في (الطاحونة) بل كُرها في التجنيد، وكلّما رأى بعضاً من الاستحسان أفي الوجوه فاض أكثر وبدل من أن يختم ذلك بدعاء كما هو معتاد قال فيما يشبه الانشاد:

– خوووذ بنت الأصول راهو الزمان يطول..

انتهت وصلة الشيخ وهو يتصببُ عرقاً، وقلبه المُرهق بشحم الخراف ونخاعها يخفق بشدّة، دقائق مرّت كأنما هي دهراً، خوفاً من رجوعه بخفي حنين إن لم يوافق والد (للة).

تصافح الرجلان إيذاناً بالقبول، وتنفس الشيخ الصعداء، ووضع يديه فوق يديهما، طالباً من الحضور قراءة الفاتحة بصوتٍ عالٍ مما أحرَج الرجلين، اللذين تظاهرا بالحفظ وهما يحركان شفاههما مرددين وراءه، ونظرا اليه شزراً ً نظرة مشتركةً فهمَ منها الكثير.

كلا الرجلين كانت شربته الأولى من حليب الأمّ حليباً خاثراً يسميه العامة (لبِي) يملأ خلاياه الأولى ببرغماتيةً متوارثة جُربّت لقرون طويلة في أرض (لوتوفاجي) عناصرها ثلاثة: أن تتصاهر مع من رضع نفس نوع حليب الأم، أن تكون قريباً من الحاكم، وأن تتعلم في مدارس بعيداً عن الكتاتيب حيث يدرس المحظوظ من العامة.

والد العروس مثلاً كان كانت (الأستانة) مكان تعليمه، مكافأة لوالده الذي كان يجمع الضرائب بطريقة عجز عنها عسكر الوالي أنفسهم، أحياناً بنشر إشاعة عن كرامة من كرامات جدّه، وفي أحيان أخرى بعدم ملاحقة من يقول له (طُزّ) ، وقد يصل الأمر الى الاستعانة بقطاع طُرق يسلبون الناس كفاف عيشهم، وهو بريء من ذلك براءة الذئب من دم بن يعقوب..

ذات مرّة وقد عاد لزيارة أهله سَألَ والده لماذا لا يبني الولاة مدارس للناس وقد حكموهم أربعة قرون؟

نظر اليه والده نظرة يتطاير الشرر منها، وقال له وقد انتفخت أوداجه واحمرّت، واختلطت الكلمات مع رذاذ لعابه المتطاير:

– مازال تعاودها نقصلك لسانك.. فاهم!

مقالات ذات علاقة

لقمة فرح (راية النصر)

محمد الأصفر

مقطع من رواية جايـيرا

سراج الدين الورفلي

عشت كل شيء

شكري الميدي أجي

اترك تعليق