سرد

لقمة فرح (راية النصر)

من أعمال الفنان المصور أحمد السيفاو

كل يوم تزداد الحياة كآبة، يزداد ابتعاد الناس عن بعضهم، حدائق ألعاب الأطفال كلها حواجز حمراء، في الأرجوحة فيروس، وفي الزلاقة فيروسات، وفي الشيع وطي فيروس سمين، وفيروس نحيف، هكذا قالت لي ابنتي الصغيرة، التي أخذتها في نزهة، ثم ضحكت. المتر ونصف الذي يفصلك بين إنسان وآخر في الشارع، أو في طابور المخبز، أو السوق، بات آلاف الكيلومترات، كلاكما حذر جدًا، كلاكما ينظر إلى الآخر كمشروع فيروس يتربص به. لا أحد يخرج من دون كمامة وقفازات وقنينة معقم في جيبه، وقرطاس مناديل. في كل خرجة  تود أن تنهي شغلك سريعاً لتعود إلى البيت، إن كانت المسافة إلى السوق قرابة 5 كيلومتر، مثلًا، فتفضل أن تمشيها على رجليك، حتى تتجنب ركوب الحافلة، أو قاطرة الأنفاق. سائق الحافلة نفسه جعل حاجزًا من شريط أحمر يفصل بينه وبين الركاب.

الباب الأمامي ما عاد يفتحه، المفتشون عن التذاكر اختفوا، وكأن الأرض ابتلعتهم، والسائق نفسه يغض الطرف إن كان معك تذكرة أو لا، لا يريد نقودك وأنت بالطبع لا تريد تذكرته المفخخة. لا زحمة في الحافلة، ثلاثة ركاب، أو أربعة، فقط، كلهم يعيشون لحظة الرعب، يخافون أن يتسلل الفيروس إليهم بطريقة، أو بأخرى، يترنحون داخل الحافلة من دون أن يتمسكوا بالقوائم البلاستيكية الخطرة، التي تجعل الفيروس يعيش على سطحها عمر نوح، وإن جلسوا فلا ينزلون بمؤخراتهم الطريّة، أو العجفاء، بقوة على الكرسي، حتى لا يلتصق في بناطيلهم فيروس لئيم. وعندما يعود الإنسان إلى البيت يبدأ فيروس آخر في نخره، وهم الأطفال والزوجة، الذين ما تعودوا على هذا السجن الرهيب. تتمنى أن يمضي اليوم على خير، وبمشاكل أقل جدًا، يعني مشاكل خالية من العنف. تنخرط  في يومك الكوروني هذا  في الأشغال البيتية، تستعيد مهارتك أيام الزرادي والكشافة والمعسكرات الشبابية في الطبخ، وفي تنظيف البيت، وفي إعطاء حصة تمارين رياضية مرحة، لتغيير الجو، ومنح الجسم وجبته الضرورية من الحيوية. لكن، بعدها تعود من جديد لتعيش حالة خوف ورهبة شديدة، كل ألم عارض تشعر به تظن أن الفيروس قد اقتحمك على حين غرة، تخاف أن تعطس، تخاف أن تسعل، أو تتجشأ، أيضًا، تطبق التعليمات بحذافير حذافيرها، لعلك تنجو من هذا الوباء الذي يحصد البشر من دون تمييز، وباء رغم خطورته وخبثه عادل جدًا، لا يعرف نخبة، أو مشاهيرًا أغنياء، أو فقراء خيرين، أو أشرارًا، أي حياة تقابله يدخلها ويدمرها، كل يوم أعداد الموتى في تزايد، وأعداد الإصابات أكثر، ولم تعد هنالك بلدان عذراء من المرض على سطح البسيطة، كلها دخله.

حتى الدول الغنية المتقدمة في كل المجالات، التي تظن أن إمكانياتها عالية جدًا، أنهكها وعبث فيها، ووضعها في حجمها الإنساني الطبيعي، وأشعرها أنها ضعيفة جدًا معه، وقال لها إنه لن يتركها في حالها، وقبل أن تصل إلى اللقاح الذي قد يوقفه عند حده يكون قد شبع منها موتًا بشريًا واقتصاديًا.

في هذه الأوقات الفيروسية، يتذكر الإنسان كل مصائبه السابقة، يحاول أن يصححها قليلًا قبل فوات الأوان، الذاكرة تتذكر بكل قوتها، إنسان أخطأت في حقه، عليك أن تبحث عنه بكل طريقة حتى تواسيه وتطلب منه الصفح، الموت يركض وراء الذاكرة، والذاكرة تهرب منه لإصلاح ما مضى قدر الإمكان، لم يعد هنالك وقت يمكنك أن تتدارك فيه كل شيء وتصلحه، الآن تعيش القيامة الحيّة، عليك أن تنظف نفسك قليلًا قبل أن يدفع بك الفيروس إلى القيامة الميتة التي نؤمن بها ولا نعرفها.

تزداد الحميمية في البيت، وكل يوم يمضي على خير تشعر فيه العائلة بالسعادة، كل العائلات تنتظر الصيف بشغف، لأنه كما يقولون إن الحرارة تحد من نشاط الفيروس، الشمس ستكون معها والبحر أيضًا، كل العائلات تتابع النشرات الطبية اليومية، وتهتف لأي بحث قطع شوطًا كبيرًا في ماراثون اللقاح. لقد توارت الآن الاختلافات العرقية والسياسية والدينية والمزاجية وغيرها، كل البشرية صارت وحدة واحدة تكافح ضد عدو واحد، لا يمكنك أن تعالج جزءًا من جسم البشرية، وتترك الباقي. لن تشفى البشرية إلا بعلاج جماعي يقضي على المرض في كل أركان الأرض والسماء، الحلول الفردية تنفع مؤقتًا، لكنها ليست جذرية، تنفع لفترة قصيرة، لكن سيل الفيروس سيجرفها حتمًا نحو الهاوية. والآن قالوا لي في البيت لقد كتبت كثيرًا، ولا توهمنا بأي إلهام، أو أدب، أو حالة إبداعية، حلت عليك، المطبخ ينتظرك يا رب العائلة، وعليك أن تطبخ لنا الغداء، وابتسم أرجوك وخليها على الله، لا نحبك أن تطبخ لنا ووجهك عبوس كما فيروس، فيكون الطعام حزينًا ونحن في أمس الحاجة لتذوق لقمة فرح. إلى اللقاء حقًا، لابد أن أذهب إلى المطبخ، هناك بعض الدجاج، والأطفال وأمهم يريدون “أرز أمبوّخ” (وجبة ليبية)، أنا ماهر في إعداده، في الخدمة العسكرية الوطنية أعفوني من التدريبات والجمع اليومي في الساحة، وكل السرية قالت لي مكانك في المطبخ يا مستجد، وليس في ساحات الوغى. في آخر أيام التدريب، أخذونا إلى امتحان الرماية بالنار، وكانت كل رصاصاتي بالمسدس البلجيكي والأمبريتا الإيطالية، والكلاشنكوف الروسية، لم تصب أهدافها المرسومة على هيئة بشر، لكن بقاذف الدروع الآر بي جي ذي الهبّة الخلفية الرهيبة أصبت برميل القطران والطنجرة الكبيرة التي فوقه من أول رمية، وصفق لي الجميع، وحقًا في الميز (المطبخ العسكري) كنت أرمي قطع لحم العجل، أو أفخاذ دجاج مسلخ غوط السلطان من حيث أغسلها في الحوض، وهو عبارة عن حوض استحمام (بانيو) ناحية الطنجرة الضخمة في منتصف المطبخ، فلا تخطئ طريقها أبدًا، وبعد أن أنتهي أضع فوق اللحوم المقادير المناسبة من الزيت والبصل والطماطم والفلفل والكركم وبقية البهارات، ثم أضعها فوق الموقد، وأبدأ في تحريك المحتويات بعصا مجرفة غليظة، أنا أطبخ بطريقة خوه على بوه (خلط كل مكونات الطبيخ من البداية)، ولا أبدأ طبخي إطلاقًا بقلي الزيت والبصل، لا أحب أن يحترق الزيت أمامي ويتألم، يكفي أنه قد تم عصر ماضيه بعنف مرات عديدة، ومن هنا سيتقاسم معه اللحم وبقية الخضروات ألم نار الموقد الشديدة. أتذكر الآن النار الأخرى التي نرميها بعد كل تدريب على أهداف من جماد، لنرميها بعد ذلك على أهداف حيّة نقتلها، ونرفع على أشلائها راية النصر، وأي نصر هذا بالضبط .


مجتزأ من عمل جديد 2فبراير2020

مقالات ذات علاقة

وزارة جديدة لشؤون الأحلام

محمد الأصفر

رواية: اليوم العالمي للكباب – 9 (الأخيرة)

حسن أبوقباعة المجبري

رواية الحـرز (10)

أبو إسحاق الغدامسي

3 تعليقات

rashad aloua 10 مايو, 2020 at 14:14

جميل اسلوب سلس وشائق كعادتك

رد
نعمان رباع 23 مايو, 2020 at 01:04

اخي الكريم محمد مفتاح الأصفر كان يجب علينا نحن كلنا ان نعد انفسنا لدرئ سلبيات السلوك الارادوي غير العلمي والسلوك المتهور والمغامر في حياتنا حتى الشخصية منها قبل العامة قبل جائحة كورونا التي جعلتنا رغما عن انفنا نترك تلك النزعات الارادوية والمتهورة والمغامرة في مسيرتنا ولكن كما قال الشهيد ناهض حتر في كتابه ربيع زائف ارجو الايكون قد فات الأوان أي كالمثل الليبي بعد ماتخد يبي يدير بندقة

رد
المشرف العام 23 مايو, 2020 at 09:26

نشر مرورك الكريم

رد

اترك تعليق