عدنان بشير معيتيق
يشتغل الفنان التشكيلي الليبي علي الزويك على الجانب الخام من فن الرسم في أغلب مراحله الفنية، يستقي مفرداته من ذاكرة كأنها ذاكرة أطفال صافية غير مخدوشة خصوصا مراحله الأخيرة منها، كان دائما يقطع الصلة بين ما يعمل وما تم إنتاجه في تاريخ الفنون، يحرص أن يكون التلقائي الأول الذي لا يمكن أن يتجاور مع الآخرين إلا في المواد المستعملة من الأكوريل والورق الأبيض، وما عدى ذلك يكون الاختلاف في ما يقدم من نصوص بصرية تعتريها الكثير من الطزاجة التشكيلية لمدرسة “الأوتسايدر” ذلك النهج الذي اعتمد على مقومات ذاتية واجتهاد شخصي في التعلم والتحصيل الفني والمعرفي من ضمن الجماعات التي تبنت هذا الطريق بعيدا عن الدراسة الأكاديمية.
والاطلاع الواسع من قبل الفنان على التجارب التي أنتجها الفن عبر التاريخ، وإتقانه العديد من اللغات الأجنبية بالإضافة إلى العربية مكناه من الاقتراب أكثر من الفهم التشكيلي المعاصر والمنتج الحداثي في عواصم الفن العالمية وزيادة قدرته النقدية اتجاه كل ما يتم إنتاجه في محيطة المحلي والعربي والدولي.
في بداياته الأولى وبواكير العمل الفني عنده كان علي الزويك يرسم أعمالا تتخذ من المناظر الطبيعية لجغرافيا البلدان العربية وخصوصا شمال أفريقيا في أحجام صغيرة بأقلام الحبر، وفي مراحل لاحقة أصبحت الألوان تشغل حيزا كبيرا من اهتمام الفنان وكذلك أحجام الأعمال الفنية أصبحت أكبر وأكثر قربا من التعبير التلقائي بالكثير من الخصوصية بالمائيات الثقيلة على ورق منها أعماله الشهيرة في الوسط الفني الليبي، المدينة البيضاء ومواسم الرعي.
الزويك يرسم من الداخل ويتجه إلى الخارج، مع استعانته الدائمة بالخبرة العملية التي اكتسبها في الرسم مع السيطرة على مساحات اللوحة وإنتاج الأعمال. في تلك المرحلة اقترب من استعمال مفردات أكثر محلية فكان النخيل والرمال والمعمار الليبي من البيوت والمساجد والأسواق والأزقة بأقواسها وكذلك طرقاتها وخصوصا الملامح الأصيلة التي تميز الكثير من المدن في شمال أفريقيا بالألوان الفاتحة وتقسيمات بالأبيض والأزرق، كأنه ألوان ظلال الجير بأشكال متداخلة الضفائر منتشرة في أرجاء اللوحة كلها.
كأن الفنان كان يهاب الفراغ الأبيض كما كان يتساءل في الكثير من كتاباته حول تلك المرحلة بخلاف ما أصبحت عليه لوحاته في مراحله اللاحقة حيث الفضاء الأبيض هو أساس التكوين الفني عنده حيث يحيط بمفرداته المنثورة فيه بكل حكمة وإتقان.
في خلاصة أعمال الأكوريل من مراحله المتقدمة. يركن الفنان علي الزويك في تفعيل منظومة داخلية تستقي من ذاتها مواضيع الإنسان المعاصر وما ترافقه من مشاعر الاضطراب والهلع والكثير من الشكوى، فتأتي أعماله مجروحة، خدوشة وكأنها لحم آدمي وأجزاء من أمعاء متناثرة في أرجاء اللوحة وفي أحيان أخرى توصيف داخلي للخلية من أمشاج ودماء واختلاط الأصفر والأحمر مع بلل الورق وأفكار متماهية بين ما أنتجه الفنان الألماني آلبرخت دورر من تعبيرية قاسية في لوحته “رمزية الجَشِعَ” إلى رهافة التعبير بسمفونية اللون للفنان المصري عدلي رزق الله عن لوحة الفلاحة ورسوماته المائية الباذخة بالنور بنبرة صوت الفنان علي الزويك وخلطته الخاصة.
أعماله هرمونية صنعتها الفطرة، بسيطة التركيب في الظاهر، معقدة وعميقة في الباطن وتحتاج إلى جهد كبير لسبر أغوارها وفك رموزها، لن تجد مفردة أو شكلا إلا وقد نُفذت بمنطق غريب يدفع الفنان لإنتاج هذه الأشكال الغرائبية بكل ما فيها من كآبة واختزال للبهجة والفرح.
ومن الصعب أن تعثر على محسنات تشكيلية تسر العين التقليدية بسهولة في معظم هذه الأعمال مثل نور، ظلمة، أبيض، أسود، تدرج لوني، شفافية وغيرها. فالفنان علي الزويك لا يختبئ وراء هذه المحسنات كما يفعل الكثير من التشكيليين الذين يعجزون عن التعبير ما في داخلهم فيستعيضون عن ذلك بالتقنية والمهارة في الرسم والاستعراض لقدرات الرسم التقليدية.
اطلاع الفنان على علم الإيتيمولوجيا والبحث في أصول الكلمات كانا أحد أهم مصادر المعرفة عنده وكان من ضمن المخزون الذي أثر في خطابه التشكيلي والكتابة، فالفنان اهتم بالنص المكتوب كما كان يهتم بالنص المرسوم وكانت له العديد من الكتابات النقدية عن تجارب ليبية بنظرة فاحصة وعميقة لتلك التجارب.
يكتب الفنان عن تجربته في كتابه “شجون القرية بكّات المدينة” فيقول “بدايتي في التشكيل أرسم البلح وبيوت الطين، القرى المتداخلة البيضاء بين الأضواء والظلال، ظلال الأشياء تحت الماء، رسمت عالم الفقراء بمفهوم العالم الصناعي. زمني، زمن الآخرين، المتقدمين، المتخلفين، على حدٍ سواء، هو زمن الشكوى، الشكوى من كل شيء. لا يذكر شيئا إلا وتسبقه كلمة أزمة، عدد الذين يعيشون خارج أوطانهم يزداد كل يوم، والأسباب عديدة، منها الخبز والشمس الـقـلـق الانحسار الوحدة رغم الزحمة. المدن المكتظة بواجهات المحلات الاستهلاكية وسقط المتاع. تتعاظم يوما بعد يوم الحاجة الملحة للتعبير عن الذات”.
ويتابع “قرأت بعمق وانتباه، باللغات المنتجة للإبداع الفني، نصوص الحداثة ونصوص ما بعد الحداثة، الحفلات الصاخبة، موسيقى المعمل، تكسير السطوح والكولاج، تنظير جماعة الجسر، مارسيل دوشان، وجماعة الفولكس إلى تنظير جوزيف بويز، إلى عودة الرسم بعد السبعينيات سألت نفسي: هل سياق طبيعي وصحيح وغير مفتعل، لو نفذت عملا مدركا بالذهن، هل استعمل الحاسوب، والفيديو؟ قلت لنفسي: لا، لا، لا… أمام تدفق الحس الغامر، صحوة نفسية وصوفية طاهرة، خارج أماكن عرض اللوحات، آليات النقد الخامة، القادحة، الشاكرة، آه، أصيح وكفى، كيف أرسم لوحة فيها زمني الخاص وليس من زمن تاريخ الرسم؟”.
ويضيف “الحساسية الذاتية، الحيوية الشديدة لتكسير التبعية بكل معانيها ثمانية أعوام أسبح في ملكوت نفسي، فتر حماسي لكل شيء، قطعت صلتي بالتقليدي، أنتقل بين مدينة الزاوية بليبيا ومدينة سبيتال دراو بجنوب النمسا، أمشي على الأقدام عشرات الكيلومترات، لا أتعب زفير وشهيق بدرجات متنوعة من الداخل، وأنا جالس في أيام الشتاء بين القوارب. ثمانية أعوام عزائي الوحيد هو توقع إنتاج شيء مختلف”.
ويقول الزويك “أجهد نفسي ألا تكون لوحاتي بطاقات سياحية، قريتي رسمتها وحملتها أبعادا اجتماعية، ونفسية تعبر على التلاحم والمودة بين سكان القرية أنها عمارة بلا مهندس وراءها إيحاءات بالمودة والحميمية”. وتجدر الإشارة إلى أن علي الزويك مواليد مدينة الزاوية ليبيا 1949، صدر له كتاب “فيوض السرد- فن الخلية” والكتاب الثاني “شجون القرية بكّات المدينة” متضمنا أعماله الفنية مع بعض القراءات النقدية والمقالات الصحفية العربية والغربية.
والفنان حاصل على الجائزة الأولى من إدارة الثقافة طرابلس 1973 والجائزة التقديرية بالكويت معرض السنتين 1974، وجائزة الرسم المائي في بلجيكا 1985 وله العديد من المعارض الفردية ومشاركات في المعارض الجماعية التي قام بها الفنان مثل معرض بقاعة جرانس هاوس بلجيكا 1986، ومعرض الفن المعاصر بالدول الإسلامية والدول المتأثرة بالإسلام بألمانيا 1998، ومعرض مائيات بمتحف الفن الحديث بالقاهرة، ومشاركة في المهرجان الدولي للفنون التشكيلية بالمحرس تونس 2004.
صحيفة العرب | الخميس 2024/02/15، السنة 46، العدد: 13042.