المقالة

ما وراء الجامع.. أو طوبى الغرباء

((فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها
لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)) – الروم(الآية: 30).

من أعمال التشكيلي العراقي سعد علي
من أعمال التشكيلي العراقي سعد علي

( أجل…
ابتعد قليلا، حتى لا تحجب عني أشعة شمسي)

بهذه النبرة الصارمة، والمفعمة امتعاضا وغيظا، رد ديوجين على الاسكندر الذي كان قد سأله متوددا.
(هل من خدمة أؤديها لك؟)

لينتهي الحوار المقتضب الذي دار بين الرجلين، بعدما اقتحم الإمبراطور معتكف الفيلسوف.

كانت نهاية غير نمطية ولا معتادة، لحدث أبدته كما لو أنه وسم بانقلاب في الأدوار وفي الدلالة أيضا، وطبعا بطابعه، فتحدث صاحب السلطة بلغة لينة، مهادنة ومتوددة، فيما أقامت كلمات المفكر جدارا من الصد، ووضعت نقطة في نهاية القول.

ومع ذلك فهي نهاية لا تخرج عن سياق الاحتمالات المشرعة عليها تلك العلاقة الموسومة منذ بدايتها الأولى بالاختلاف والتنافر وسوء الفهم.. وربما.. بإساءته المتعمدة.

فمنذ زمن الأسطورة وعوالمها الموغلة في ارتباط الواقع بالخيال، عندما اصطدم بروميثيوس وسيزيف.. كل بأسبابه وطريقته.. بزيوس الممسك بصولجان السلطة في ذينك الزمن وعالمه، وما باء به كل منهما جراء جرأته وتجاوزه لما وضع له من حدود.. ليس له، ولا عليه.. تخطيها، وحتى زماننا وعالمنا الراهنين، حيث غامت الرؤى وعشيت الأبصار والبصائر، وفقدت فيه الأفكار والوقائع ما يفترض أن يحدد ملامحها وأبعادها ويموضع ماهياتها إزاء ما يغايرها ويتميز عنها، لنخلص إلى تداخل واختلاط فيما بين الأفكار والمفاهيم، وصراع ليس له من الصراع الحق غير اسمه إذ هو في الواقع فوضى مكتملة الشروط والسمات.. للابتذال.. وحده الكلمة الفصل فيها.

وما الابتذال غير غياب المعنى واغترابه عن الانسان وعالمه وضياعهما (الانسان والعالم) المترتب عن ذلك الغياب، وإن يكن الابتذال الذي أطلق عليه المفكرون والفلاسفة والأدباء اسماء من قبيل الاغتراب والضياع والسقوط والعبث واللاجدوى هو في الواقع الوضع البشري في موضوعيته و خارجيته، فإنه في ذاتيته ومن حيث الانسان في جوهره وداخليته ليس غير الانحراف عن سواء الفطرة البشرية السليمة والمغايرة لفطر غيره من الموجودات، ففطرة الإنسان السليمة تبقى مؤهله الوحيد لبلوغ إنسانيته والارتقاء إلى مستوى مسؤوليته الوجودية وتحقيق خلافته لله في الأرض، فسواء الفطرة البشرية هو تحديدا الشرط الإنساني الذي يمكن في إطاره أن يستعاد المعنى وتتحدد قيم الموجودات، وفي إطار الشرط الانساني وحده يستعاد المعنى فيستعيد ذاته ويعود إليها، ويستعيد الانسان رشده ووعيه بما هو وبما هو عالمه. وبرسالته فيه وغايته الوجودية الوحيدة المجدية دون ما يتوهمه من غايات، وإذا كنا نطالع عبر سيرة جنسنا ومنذ بداياته، ما اكتنف الشرط الانساني من سوء الفهم.. وحتى من إساءته المتعمدة، وما ترتب عن ذلك من نتائج كارثية نشهدها في يومنا هذا مهددة إيانا بفناء شامل، فما لنا من مخرج من هذا المأزق إلا بالإيفاء بالشرط الإنساني الذي هو أمانة جنسنا( إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا)…. الأحزاب 72، والتي يتساوى ازاءها من حيث القوة والوجاهة والمسؤولية موقف الفرد والجماعة من الأسرة الصغيرة المكونة من الرجل والمرأة وحتى الجنس البشري بكليته، فجميعنا نحن الآدميين، وكل منا على حدة بعلمه أو بدونه، يحمل أمانة تحقيق خلافته لله في الأرض، والتي تتجاوز بدلالتها ومعناها المعنى السياسي بضيق أفقه وكموده وبما يغمره ويفعمه من نزوعات الاستحواذ والتسلط، لتستوعبه وتؤنسنه.. فالخلافة في الأرض ليست قسرا على ملك ولا امبراطور ولا رئيس دولة أو شيخ قبيلة أو طائفة أو حزب، بل هي عامة لبني آدم جميعا ذكورهم وإناثهم على السواء، فآدم هو خليفة الله في الأرض، وآدم ليس الذكر البشري دون الأنثى، بل هو الانسان ذكرا وانثى معا المخلوق من( أديم الارض)، أما حواء فهي كائن ايديولوجي يهودي أراد به احبار اليهود تجذير عنصريتهم ازاء المغاير والمختلف حشروه في النص الديني ليضفوا عليه قداسة إلهية، وذلك بتحريفهم ألواح موسى، يؤكد هذا الرأي عدم وجود حرف واحد في القرآن يتحدث صراحة أو ضمنا عن كائن اسمه(حواء)، مثلما لا وجود لأسطورة الضلع الأعوج في الكتاب المنير، و يعلمنا ذلك ألا نقبل بكل ما يقال لنا دون أن نعيه، ولنعي فعلا أنه ينبغي لنا أن نتحرر من اسر الايديولوجيات واساطيرها، وهو هدف نحققه بالسعي الحثيث وراء المعنى، في قصة الخلق يقول الخالق تعالى : -( وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) – البقرة 31، لا يبدو التنافس على تحديد تلك الأسماء وما كانته هل هي أسماء بني آدم جميعا، أو اسماء كل المخلوقات، كمثل الصحفة والقدر أو حتى الفسوة والنفسية كما عبر بعض المفسرين، أو اسماء الاشياء كلها ذواتها وافعالها، ذا جدوى أو أهمية في سياق هذه الآية الكريمة التي تجيء تأكيدا للتعليم الالهي للإنسان( {الرَّحْمَـٰنُ(1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ(2) خَلَقَ الْإِنسَانَ(3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ(4) } [سورة الرحمن: 1 إلى 4] والبيان هو التمييز الدقيق بين موضوعات التعليم من حيث معانيها وتميز كل من تلك الموضوعات بمعنى خاص به، إن علوم اللغة كما المنطق وهي اجتهادات بشرية إنما تتمحور حول المعنى وليس حول الأسماء أو الصفات، أما التعليم الإلهي فيحقق تلك الغاية مباشرة عبر الفطرة الانسانية وبواسطتها، حدث ذلك في الجنة( ووفقا للنص القرآني) مباشرة( أما بعد فقداننا الفردوس الأولي) فبواسطة الوحي( {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ(4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ(5) } سورة العلق: 1 إلى 5

فالنبي الذي يوحى إليه ملزم بتبليغ فحوى ذلك الوحي حرفيا للآخرين لتنتقل مسؤوليته إلى كل آدمي بلغه، فلا يقف الانسان إزاء ما يتلقاه موقفا منعزلا من الوحي ومصدره ولا من غيره من البشر بل أن من ضمن أمانته ومسؤوليته أن يتشارك ذلك مع نفسه أولا ومع كل انسان آخر، بأن يحاور ذاته ويحاور الآخر أيضا، وكل ذلك داخل في إطار تعليم الله للإنسان، الذي بدونه نبقى راسفين في كل مترتبات عدم استواء الفطرة، وفي مفتتح الوحي القرآني يؤمر الإنسان بأن يقرأ باسم ربه، وفي ذلك تقرير لواقع فعلي إذ ما من قراءة إلا وهي( بوعي و انتباه من القارئ أو بدونه ما) وسواء قبل نزول القرآن أو حتى بعده إلا وهي باسم( رب ما) فالذي قرأ باسم فرعون الذي قال( أنا ربكم الأعلى) قارع بجهله من كان يقرأ باسم الله الرب الحق، وذلك ما يفعله من يقرأ باسم أي منشئ أيديولوجيا أو صاحب فلسفة، ولأنه ليس من غايات الوحي القرآني تقرير الأمر الواقع والتوقف عنده تسليما به واستسلاما له، بل إظهار خطأه ونقصه وقصوره ثم تصحيحه، فإنها تحدد الرب الفعلي بأنه( الخالق والمعلم).. فالخلق الحقيقي لا يكون إلا من عدم وهو مشروط بالعلم والقدرة، العلم بما يعنيه العدم وما يعنيه الوجود، والقدرة على تحويل ما يخلقه بينهما وفق علمه وارادته وقدرته، إضافة إلى منح ما يشاء من مخلوقاته الوعي والقدرة على تمييز ذاته عن غيره من المخلوقات، وكذلك التمييز فيما بين تلك المخلوقات، وقد حدث ذلك فعلا( كما يخبرنا القرآن الكريم) مع إبراهيم الخليل عليه السلام..( {وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ(75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَـٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ(76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ(77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَا أَكْبَرُ ۖ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ(78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا ۖ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(79) } [سورة الأنعام: 75 إلى 79]

ف الملحمة الابراهيمية التي تبرهن على أن تعليم الله للإنسان قائم فعلا ومتحقق بتواصل لا ينقطع ولا يهن، ودائم بدوام الذكر الذي يقول الخالق تعالى في حقه( {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [سورة الحجر: 9]

 فالذكر المحفوظ الذي يعلمنا في أول دروسه المحورية أن نقرأ بسم ربنا، وان تلك القراءة ليست على غرار غيرها من القراءات بل هي قراءة نعرف من خلالها بداية من يكون الرب الحق والمنزه عما يعتور الأرباب الزائفة من نقص وقصور وأنه تحديدا( الخالق) الموجد من العدم، و( المعلم) لعلمه المطلق بحقائق الوجود وبأدق دقائقه ، ومعنى القراءة باسم هذا الرب( الله) هو أن نعتمد ما يعلمنا إياه مقياساً للصواب والخطأ فيما نقرأ، وأن نأخذه منطلقا ومحورا لمعارفنا ووجودنا. {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۗ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [سورة فصلت: 53]

 فتلك هي الامكانية المتاحة لنا لمحو أميتنا من مستوى فك الحرف وحتى مستوى فك ملغزات وجودنا وملغزات الوجود من حولنا. وهي القراءة التي توافق الفطرة الانسانية وتحقق استوائها بما تتيحه لنفس الانسان من امكانيات تحقيق نزوعاتها الفطرية الأصلية بتناغم وانسجام ودون أي اختلال أو انحراف. وبها نتعلم أن( النفس أو الذات الانسانية) ليست كيانا مضافا إلى روح الانسان وجسده، بل هي تحديدا الكيان المتصف بالحياة والناتج عن اجتماع الروح والجسد معا، أما ما يشير إليه الفلاسفة من اكتظاظ كيان الانسان بنفوس عديدة كنفس ناطقة أو نفس غضبية أو شهوانية، فإن ذلك لا يعني اكثر من حالات للنفس الواحدة ناتجة عن تفاعلها مع عالمها ومن فعلها وانفعالها في علاقاتها بغيرها من مكونات ذلك العالم وليست نفوسا متعددة ومتمايزة في الكيان الواحد، وذلك ما يتضح من خلال واقعة الموت بالذات حيث يتم افتراق الروح عن الجسد كعنصرين مكونين للنفس ليعود كل منهما إلى مصدره( {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۖ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [سورة العنكبوت: 57]

، فالموت تغير يقع على المخلوقات ويعني الانفصال والافتراق أو مثلما يقول شيللي( لا شيء لا يتغير إلا التغير نفسه) ليثبت أن لا بقاء ولا دوام إلا للرب الخالق وحده، وهكذا لا مكان لأوهام الانسان ولا لأضغاث غروره وانتفاخه الذي بلا معنى ولا طائل من وراءه، فلا بد له من عودة إلى الأصل الذي جاء عنه وإلى يقين أن( لا إله إلا الله) وإلى أن يحاسب عما اجترحه في حياته الدنيوية، ليعرف هل كانت حياة حقا أم كانت موتا بالحياة، اذ الحياة الحقة هي التي يتاح خلالها لنزوغات الفطرة أن تتحقق بتساو وتعادل دون طغيان بعضها على بعض فلا ينساق الانسان مع نزوعاته الجسدية حتى تطغى عليه وتستعبده لتضعف بالتالي نزعاته الروحية وتذوي لينتهي الأمر به إلى كائن ذي بعد واحد وهو ما آلت إليه فلسفات الغرب وعلومه الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية من دعايات ودعوات الانحلال والشذوذ والانحطاط، ودون أن تطغى بالمقابل نزوعاتها الروحية وتبالغ في انحيازها إلى ما تهفوا إليه لتضعف بالمقابل نزوعاتها المادية وتحرم مما يشبع حاجاتها ويشبع ظمأها الوجودي لتنتهي إلى الاستغراق في أوهام التجلي الروحي والغرق في متاهات النيرفانا كما في بعض الفلسفات الشرقية. ان استواء الفطرة يظهر في أوضح صوره من خلال تحقق نزعة الاجتماع، حيث لا تكون الذات الانسانية ساقطة في اتون اغتراب عن الانسان في الذات وفي الآخر، ومن أجل ذلك اقتضت حكمة الخالق أن تضع لخليفته منظومة من القيم التي يمكن له بالاهتداء بها أن يحقق سواء فطرته واكتمال وجوده و استواء حياته، فمنظومة القيم التي تتصدرها قيمتا المودة والرحمة والمؤسسة على مبدأ التوحيد قادرة على أن تغني الانسان عن كل منظومات القيم التي أفرزتها مختلف الفلسفات و الأيديولوجيات البشرية، وأن تسد حاجته إلى علامات تضيء دربه في الوجود والحياة كي لا يتردى في متاهات الضياع والعبث واللاجدوى، ففي الذكر المحفوظ( {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [سورة الروم: 21]

 فبالمودة والرحمة لا اغتراب ولا غربة بين الزوجين وذلك أن من مقتضيات المودة والرحمة التساوي بينهما مما يعني تلقائيا أن المساواة قيمة سامية لا يختل بغيابها ميزان المساكنة بين الزوجين بل يختل توازن كل منهما في نفسه وعلى حساب نفسه وحساب المساكنة، إلى ذلك فإن تربية الابناء في إطار المودة خير وجاء لهم من كل عوائل الضياع، فمنظومة المودة والرحمة ذاتها تغتني بقيم الحرية والعدالة والكرامة وكل القيم السامية التي يمكن للآدمي باعتمادها أن يحقق شرطه الانساني وخلافته لله في الأرض.

هنا تحديدا وفي هذه البيئة الايمانية والعقلية ومن أجلها وجد الجامع( {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ(96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا ۗ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ۚ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ(97) } [سورة آل عمران: 96 إلى 97]

.. بيت الله ومقام إبراهيم، وهو أول مدرسة إسلامية يتعلم فيها الإنسان أسس الوجود وقواعد الحياة بمأمن من غوائل التيه والاغتراب. هذا البيت هو النموذج الأول للجامع، وحيث هو مسجد فالسجود( ولا يكون إلا لله الواحد الأحد) فهو أهم روابط الانسان بأصل وجوده وحياته. ولأنه أكثر الروابط نقاء وطهرا فالطهارة شرط لازم للسجود ولتتحقق الطهارة لا يكتفى فيها بطهارة الظاهر ونظافة الجسد بل هي تتجذر عميقا في وجدان الانسان حيث ملتقى مكونيه الرئيسيين ونزعتيه الروحية والمادية ومنشأ نزعته الاجتماعية، فتجذر الطهارة في الضمير هي الطريقة الوحيدة المجدية للتحرر من فصام ظاهر الانسان عن باطنه وللحيلولة بينه وبين الغدو كذابا على ذاته قبل غيره، من هذا المنظور تضاف الطهارة كقيمة إلى منظومة قيم المودة والرحمة( التي هي في حقيقتها المنهج التربوي الاسلامي)، وشرطا كافيا من شروط الاجتماع البشري، وذلك هو الشأن بالنسبة لقيم تلك المنظومة جميعا، فالثورة كقيمة سامية لتتحقق لا بد لها من أن تتنصل من كل المفاهيم المتداولة و المبتذلة للثورة، وأن تكون منذ أول خطواتها( في ذات الثائر نفسه قبل غيره) سعيا واعيا وجادا للتغلب على النزوعات الاستحواذية والتسلطية المترتبة عن فساد الفطرة،، واجتثاث تلك النزوعات الخبيثة أو السيطرة عليها وتحجيمها أما أن تكون الثورة مجرد تقليد آلي غبي ومحاكاة كرتونية لمن ابتذلوا الثورة وأفسدوا معانيها، و لهاثا أعمى وانسياقا مع ذلك الفساد، فتلك مهزلة وبرهان جهل وقصور. والأمر كذلك في شأن المسئولية والمحبة والعدالة والكرامة وكل القيم السامية بمفاهيمها الدقيقة الوجودية والمعرفية والأخلاقية المؤسسة على اسمى المبادئ على الاطلاق مبدأ التوحيد. وهذا في الواقع هو الاسلام في جوهره وبأدق وأعمق دلالة له، فلا ملغزات ولا أسرار، وهذا الاسلام تحديدا هو الخلفية التي يجيء عنها الجامع ليكون البوتقة الأولى لتعليم مبادئه وقيمه نظريا وعمليا، من أجل أن يرتقي الانسان بما يتعلمه فيه في مدارج إنسانيته، وليتقدم باتجاه خلافته لله في الأرض، بهذا المعنى فقط يمكن لصوت الناس أن يعلن عن وجوده ويحقق فاعليته حقا بالشرع الجماعي، فليس من الشرع الجماعي أن يغيب وعي الناس وأن يملى عليهم ما يقولون مع ايهامهم بأنهم يقولون فعلا ما يقال لهم أن يقولوا. وأن تفرض عليهم وصاية أولى مهمات الشرع الجماعي أن يعلمهم رفضها والتحرر منها، ولكن شرط تحقق الشرع الجماعي ألا يكتفى باجتماع الناس في مكان واحد بل لا بد من أن يكون راسخا في وجداناتهم وضمائرهم، أنما اجتماعهم مع الخالق نفسه فالجامع في هذا السياق لم يكن ليجمعهم لو لم يكن مسجدا، وأن السجود وتأكيد وحدانية الله وكل ما يوافق ذلك ويؤكده فيما تعلق بشؤن وجودهم وحياتهم هو غاية اجتماعهم، من أجل أن يقطع الطريق على المطبلين والقوادين والمحاولين التسلل بنزوعاتهم الاستحواذية التسلطية، وفق هذا الفهم لا يستوي الحديث عن الجامع كمؤسسة اسلامية إلا تأسيسا على القراءة( بسم الله)، الأمر الذي يجعل تناوله من منطلقات غير ذلك أو بأفكار ليست مؤسسة على القراءة( بسم الله) مخفقة وغير ذات طائل ولا جدوى، لأنها إن لم تكن من الاسباب المباشرة لغياب المعنى عن العالم، فلا أقل من مساهمتها في زيادة أمد ذلك الغياب.

مقالات ذات علاقة

القابض على الفن.. سليل المبدعين.. حاتم الكور … جرعة من الفرح

أسماء بن سعيد

ثلاث مقالات

محمد دربي

تكفيك من الشعر إشاراته وإيماءاته

عادل بشير الصاري

اترك تعليق