تشكيل

عبدالمنعم بن ناجي رائد التشكيل الليبي بين الأصالة والمعاصرة

من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)
من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)

فنان نسج تجربته بين هويته الأصيلة وتجارب معاصرة تابعها وفهمها. لا تزال تجربة الفنان عبدالمنعم بن ناجي تثير انتباه محبي الفن التشكيلي، فهو فنان رائد استطاع أن يواكب حركة التشكيل العالمية المعاصرة، ويفك شيفراتها، ويسقطها على هويته الليبية دون أن يتخلى عن محليته بل حاول نقلها إلى الخارج، لذلك كان واحدا من بين القلائل الذين أسسوا لمفاهيم وتجارب مجددة ومتجددة منحته هوية فنية خالدة.

الفنان الليبي عبدالمنعم بن ناجي من أصحاب التجارب التشكيلية القليلة التي صنعت ألقا وأضفت حسنا على التجربة التشكيلية الليبية في وقت مبكر جدا. كانت تتشكل فيها مفاهيم جديدة قادمة من عواصم الفنون وخصوصا إيطاليا وفرنسا، وهي مفاهيم تؤسس لحالة من الوعي والإدراك الجمالي الجديد لدى الكثير من الفنانين التشكيليين الليبيين، من طزاجة المنجز التشكيلي المصاحب لرؤى معاصرة وفلسفات جديدة، لجماعة الجيل الثاني من الفنانين التشكيليين والذين كانوا من ضمن أصحاب التجارب التشكيلية التي تأسست بشكل علمي احترافي إلى جانب الموهبة وهي بعيدة عن محاولات التجارب الأولى التي كانت أغلبها من الفنانين الفطريين.

 في مراحل النضج الفني عند الفنان كان بن ناجي يبتعد عن الأشكال غير المنتظمة باقترابه من الأشكال الهندسية وفي الكثير من الأحيان نجح في التوفيق بحالة من التوازن بين الأشكال في انسجام فني بين الأصالة والمعاصرة في فترة تعد مبكرة جدا في تاريخ التشكيل الليبي المعاصر، وهي تحديدا فترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي، فمقترحاته الجمالية ممتلئة بالجسارة الفنية والجرأة في التعبير كمجموعاته الفنية من حروفيات ذات أنفاس معاصرة.

التشكيلي الليبي عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)
التشكيلي الليبي عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)

الحروفيات عنده ذات صبغة تجريدية هندسية ومتماهية مع فن “الأوبتكال آرت” الذي كان من أساليب الفن الجديد في ستينات القرن العشرين، ومن أشهر رواده الفرنسي فيكتور فازاريلي، وربما تعود نشأته الأولى إلى دوائر الفنان الفرنسي روبير دلوني في اقتراحاته المبكرة والتي كانت من ضمن التجارب التي أسست للفن البصري من جهة، وللفن التكعيبي من جهة أخرى الذي برز في عشرينات القرن الماضي.

 فن “الأوبتكال آرت” وهو فن بصري يستدعي محفزات داخلية لما له من تأثير على البصر وبالتالي على الأحاسيس والمشاعر لدى المتلقي بتكوينات متضادة من الأبيض والأسود أو ألوان أخرى صريحة متباينة وبمربعات ومستطيلات وأشكال متموجة بتكوين عام كلي يجمع اللوحة في عمل فني واحد.

والفنان عبدالمنعم بن ناجي نجح في استعمال الحرف العربي في هذا التيار الفني دون أن يفسد المبادئ الأساسية لهذا التيار الفني وهو التأثير المباشر في عملية المشاهدة واستفزاز البصر وإرباكه في الكثير من الأحيان، إلى جانب تحفيز البصيرة على البحث عن أشكال متوارية خلف الإيهام البصري بكل أشكاله الذي تحدثه مثل هذه الأعمال.

بن ناجي كان مطلعا بشكل كبير على تجارب عالمية رائدة، ومدركا لكل ما تم إنتاجه من فنون معاصرة واتضح هذا جليا في تجاربه الفنية المبكرة التي انتقلت من الواقعية إلى التعبيرية التجريدية وبعدها أعماله المتماهية مع الفن التجريدي البصري، كما أشرنا سابقا، والتي ظهرت في مرحلة اكتمال نضجه الفني، منذ نهاية الستينات من القرن الماضي، في الوقت الذي كان هذا الاتجاه من الأساليب الجديدة في مراكز الفنون العالمية.

الفنان كان قد تأثر بهذه المفاهيم واستوعبها من مصادرها التي ولدت فيها دون أي وسائط أخرى، كان قريبا جدا من التجارب الجديدة التي ظهرت على الساحة الإيطالية في فترة الخمسينات والستينات من القرن الماضي والتي كانت تمثل محاولات الفن التشكيلي للخروج من أزمنة تكبله في حينها وأخذ أشكاله الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، فظهور التجريدية والتي تهتم بثقافة الخامات والمواد المختلفة إلى جانب الألوان والتعبير عن مآسي الحروب وبعد ذلك الاتجاه إلى فن أكثر قربا من الإيهام البصري وفن الديكور والتزيين مع التعليمات الجديدة في الأساليب الحديثة من فن الرسم حينها وهي التخلي عن إظهار المشاعر الإنسانية التقليدية من الشكوى والتعبير عن الألم إلى تأثيث الفراغات بأعمال تستدعي التفكير والفرح والكثير من التأمل تصاحبها المتعة الجمالية.

من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)
من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)

وتبنى الفنان بن ناجي الرسم عبر تشكيل الحرف العربي في تكوينات متداخلة وأقرب إلى الهندسية مع الاستعانة بالمنحنيات التي تشكل خطوطا وكلمات والكثير من الإيهام البصري من خلال استعمال التباين في الألوان الصريحة والخطوط العمودية والعرضية والفواصل وتدرجات لونية بشرائح من الأعمدة المتكونة من الألوان المتجاورة في تكوينات هندسية تقترب بشكل عام من ملامح الفن الإسلامي وتتماهى مع الفن البصري الحديث، فنجح الفنان في صناعة معادلة متوافقة بين الهوية الليبية الأصيلة التي يحملها والمعاصرة الفنية التي يواكبها ويفهمها.

ومع أن للفنان دراسات وتخطيطات وأعمالا أخرى للجسد البشري والمناظر الطبيعية التي تقترب كثيرا من الواقعية بتأثيرات أكاديمية أنيقة، ومع أنه تمكن من الأداء الفني للرسم الواقعي على ما يبدو من خلال أعماله التي عرضت أخيرا في معرضه الاستعادي ببيت إسكندر للفنون، كانت تجربته تتجه نحو الأعمال البصرية التجريدية والتي استعار الحرف ليكون الثيمة الأساسية في تنفيذ أفكاره ومقترحاته التشكيلية، بالكثير من الابتكار والإضافة على الساحة التشكيلية الليبية، خصوصا أن تاريخ إنجاز هذه الأعمال كان في فترة نهاية الستينات وعلى امتداد السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.

كتب عنه الفنان الليبي علي الزويك فقال “يصعب الحديث عن الفنان عبدالمنعم بن ناجي، فقد كان بمثابة المرشد والناقد لكل ما يحيط بعمل اللوحة وإحساس الفنان، وكان يتمتع بإلمام كبير بعالم الفنون التشكيلية والتصوير الفوتوغرافي. يعتبر الفنان الراحل عبدالمنعم بن ناجي من رواد الحركة التشكيلية الليبية وله إسهامات عديدة وإبداعات متنوعة، له رؤية تشكيلية في التعامل مع اللون والسيطرة علـى السطوح البيضاء وتحويلها إلى مشاهد ذات قيمة فنية عالية”.

من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)
من أعمال التشكيلي الليبي_عبدالمنعم بن ناجي (الصورة: عن عدنان معيتيق)

وفي حديثي عن الفنان مع الأستاذ الفنان علي العباني قال إن عبدالمنعم بن ناجي “يمتلك معرفة واسعة وإحاطة كبيرة بالفن التشكيلي المعاصر وله رؤية فنية رفيعة ومواقف نقدية مميزة”.

ولا بد أن نشير هنا إلى أن عبدالمنعـم بـن ناجي من مواليد مدينة طرابلس الليبية، سنة 1935، وتوفي سنة 2001. شارك في العديد من المعارض الجماعية والشخصية بشكل مبكر من حياته الفنية، واستمرت تجربته الفنية منذ الأربعينات من القرن الماضي حتى بداية الألفيات، ومنها معرض شخصي له بقاعة مكتب المعلومات في طرابلس سنة 1953.

درس الفنان الراحل التصوير والإخراج السنيمائي بالولايات المتحدة، واهتم بالتصوير الفوتوغرافي في أوقات مبكرة وعمل في التصميم الفني للشعارات والكتب والمجلات والإخراج السنيمائي والأفلام الوثائقية، فاز بتصميم شعار شركة الطيران الخفيف في فترة التسعينات.


صحيفة العرب | الثلاثاء 2024/01/30

مقالات ذات علاقة

قراءة في تجربة الفنان التشكيلي الليبي/ علي المنتصر

المشرف العام

كلام العيون والشفاه في لوحات حميدة صقر

المشرف العام

وجوه ليست كالوجوه

ناصر سالم المقرحي

اترك تعليق