في الخامسة والعشرين من عمره لكنه قال: “عشت كل شيء”. بدا سعيداً وهو يخبرني أنه فعل كل شيء، جمع المال، اقتنى السيارات وتعرف على الكثيرات وسافر لمصر وتونس وتركيا وألمانيا، ثم ظهرتْ تلك الابتسامة الثعبانية على وجهه، وأطلق فحيحاً بشعاً وهو يخبرني: “حتى القتل قتلنا”. أنفاس مفعمة بالخواء. حافظتُ هدوئي وبدوت عادياً أمامه، فقد صمت مستطلعاً ردة فعلي. لم أظهر احتقاري له ولم أقع في فخ الإعجاب بحيويته الشيطانية.
أخذ يتحدث بإسهاب عن بطولاته منذ عشر سنوات، كنتُ لا أقدر على تجاوز شفقتي نحوه، لسبب بسيط وتافه تتمثل في قصة حدثت قبل أكثر من عشر سنوات، كان وقتها في الرابعة عشرة، طفلاً رعديداً، يخاف من أقرانه، في ذلك اليوم كنتُ عائداً من إحدى جولاتي اليومية عبر تازر، وجدته محاصراً من قبل خمسة صبيان، تم ضربه بشدة، في حالة هلع، بعين متورمة وشفة مشقوقة وكان ينزف في يده ويعاني قطعاً طولياً في ظاهر كفه الأيمن، طردتُ الصبية وأخذته للمستشفى ضمدوا جرحه، ارتسمتْ على وجهه ابتسامة ثعبانية، نفس التي رأيتها بعد سنوات، تبعث على احساس بالخواء العفن.
“أنت لا تفهم ما يحدث في ليبيا”. قال بابتسامته الخبيثة: “تعتقد أن الكتب ستجعلك تفهم، لن تفهم من الكتب، سأخبرك بسر، عبرتُ كل المناطق الساخنة في ليبيا، عبرتُ من الشرق إلى الغرب ومن الحدود الجزائرية حتى المصرية، التقيتُ بكل الفاعلين في القبائل والمدن والمليشيات، أعرف الكثير من السياسيين، سأخبرك بهدا السر، لكنني سأسألك عن شيء: أخبرني من يحكم ليبيا؟”.
عندها أجبت بسهولة تامةْ: المليشيات. ضحك وقال لا. فأخبرته شيوخ القبائل، الشيوخ هم من يحكمون البلاد. ضحك أكثر وبدا شيطاناً مستمعاً بوقته، صمتُ وتطلعتُ في وجهه.
“سأخبرك أنا عن من يحكم ليبيا”. قال بملل مفتعل: “لو تريد الحق لا أعرف ما تفكر فيه وما تظن أنك تعرفه، أنا أعرف ما عشته، في هذه اللحظة يمكنني أن أتصل بشخص مهم في كل قرية ومدينة حول ليبيا، لو حدثتْ لي مشكلة في اجدابيا أعرف شخصاً مهماً يمكنه أن يحل مشكلتي، كذلك في بنغازي وطرابلس ومصراته ومرزق القطرون وكل مدينة وبلدة وقرية حتى في مفترقات الطرق الصحراوية، دائماً هناك شخص بوسعه أن يحل كل المشكلات التي أعانيها، هل تعرف أنني أمتلك مئات الأرقام المهمة لرجال يحكمون ليبيا، وإن كل واحد من هؤلاء ليس إلا تاجر للمخدرات أو ناقل لها، لا تندهش، أخبرك وعليك أن تصدقني، تجار المخدرات هم من يحكمون ليبيا، هذا جزء أصيل من الحياة الليبية مرتبط بالتهريب وقطع الطرق. تجار المخدرات هم سادة البلاد، لا نواب ولا قادة الجيش ولا رجال المخابرات ولا شيوخ القبائل، فقط تجار المخدرات. خذ نفساً عميقاً وتذكر قريبك تاجر المخدرات وراقب حيويته في العيش، دوماً يمتلك معارف في كل مناطق البلاد”.
لم أرد أن أصدقه، أردتُ معارضته، لكنني تذكرتُ عدداً من التجار المخدرات يمتلكون نفوذاً أوسع بكثير من أي شيخ قبلي.