المقالة

فرج الترهوني ونوافذ على الجمال

المترجم فرج الترهوني
المترجم فرج الترهوني

تناولت في مقالات سابقة عرضَ كتب ترجمها فرج الترهوني، وأشرت إلى جمال الترجمة أو تميزها، وهو أمر قد يصعب الحكم به من قبل قارئ لا يجيد سوى اللغة المنقول إليها الكتاب، ولم يطلع على النص الأصلي، لكن ما يعنيني، حين أقرأ ترجمات فرج، متعةُ قراءة النص في اللغة العربية، وسلاسةُ التواصل مع جماليات النص الأدبي ومع أفكار النصوص النثرية الأخرى. وإن الأمر يشبه الإعجاب بلوحة تنقل منظرًا طبيعيًا خلابًا رغم أنك لم ترَ هذا المشهد الطبيعي الأصلي. وفي الواقع كل ما يُكتب ترجمة حتى ولو لم يُنقل من لغة إلى أخرى، وحتى كتب السيرة المكتوبة بلغتنا الأم هي في الواقع ترجمة لحياة مؤلفها، وقصائد الشعر ترجمة لمشاعر ورؤى الشاعر، والمحك هو الأسلوب والجمال والاتساق في كل هذه الترجمات. ودائمًا السؤال المطروح في الترجمة التقليدية من لغة إلى لغة: هل كان المترجم أمينًا مخلصًا للنص الأصلي؟ وعلى هذا الغرار يطرح السؤال تجاه مبدع كتب سيرته: هل كان المؤلف مخلصًا في ترجمة سيرة حياته؟ هل كان الشاعر مخلصًا في ترجمة مشاعره؟ وكذا الروائي والمفكر.

يدرك صديقي فرج هذا جيدًا، وهو يواصل شغفه بنقل هذه الكتب المهمة والممتعة لتكون في متناول قراء لم يسعفهم الحظ ليتقنوا لغتها الأصلية، ويبقى السؤال لدى كل قارئ: ماذا كنت سأكون لو لم أطلع على كل هذه الترجمات؟ وما مآل رؤيتي لكل شيء لو لم تفتح هذه النوافذ على ثقافات أخرى ومعتكفات جمالية تمتد على طول العالم وبكل لغاته؟ الترجمة من أكثر انشغالات المعرفة نبلًا لأنها ما تبني جسور التواصل بين ثقافات الأمم وإبداعاتها، وأهم المراحل التي نفخر بها في تاريخنا هي الفترات الخصبة التي تفردت بنشاط الترجمة.

لا يخفي فرج حبه للغة الإنجليزية (لغته المرضعة) وشغفه بما أنجزته من فكر وإبداع، ولهذه المهمة الشاقة تفرغ دون أن يخفي حماسه ومتعته بهذا الشقاء، وهو ينقل هذه الكتب التي يحبها إلى العربية (لغته الأم)، وفي كل قراءة كنت ألمس الحرص على التوفيق ما وسعه ذلك بين روحي لغتين يختلف تاريخهما وهندستهما وشفراتهما، وما تبثه المفردات أو السياق في كليهما من صور تتداعى من مخيلات متفاوتة، لأن كل مفردة هي شفرة لصورة، وكل سياق شفرة لمشهد أو واقعة.

تعرفت على صديقي فرج في منتصف العقد التسعيني عن طريق بعض الأصدقاء المشتركين، وكان أحد مكاسب الصداقات التي تنشأ عن اهتمامات مشتركة تصب في حقل الثقافة عمومًا، والإبداع خصوصًا، ولفتَ نظري هدوؤه وحبه لطرح الأسئلة المقلقة، وحديثه المختصر دائمًا وفي الوقت المناسب، يجيد الإنصات ويعشق الحوارات الهادئة وخفيضة الصوت، وبمجرد أن يعلو الصوت أو يخرج النقاش عن سياقه ينطوي ويصمت، أو ينتحي زاويةً نائية حتى يعود الحوار إلى هدوئه، ينسحب وكأن المكان غمره دخان خانق لأنه عاش يتحاشى التلوث بكل أنواعه، وحتى التلوث السمعي والبصري الذي يعكر صفو بيئة الرفقة، وكثيرًا ما تكون مداخلاته أسئلة تتعمق بالحوار وتشرع نوافذ على فضاءات أخرى، وكل تفصيل يجب التوقف عنده وإشباعه تحليلًا، وحتى النكتة بعد أن تأخذ نصيبها من الضحك يطرحها للنقاش والتحليل، لأن كل نكتة لها بعد اجتماعي أو سياسي، وتعكر مزاجه النكت التي تزدري أو تسخر من فئة من الناس، أو تحط من قدر المرأة المنحاز لها بكل وعيه وحواسه، وهذا ما انعكس على علاقته الرقيقة جدًا برفيقة عمره، تلك العلاقة التي عاشها حبًا مستمرًا بعقد زواج، حب لم يخفت أو يصيبه الملل، وكانت هذه العلاقة النابضة حجتي ضد كل من يعتبر الزواج قاتلًا للحب، وعن هذا المناخ العاطفي الحميمي تمخض أبناء رائعون عاشوا في كنف هذا الحب.

بعض ترجمات الأستاذ فرج الترهوني
بعض ترجمات الأستاذ فرج الترهوني

كان فرج يسكن في شقة صغيرة في منطقة الحميضة ببنغازي، التي حوّلها إلى عش صغير للحب، وتحصل على أرض في بنينة على طريق المطار، سيّجها بإمكاناته المحدودة ونصب فيها بيتًا منقولًا (تريلا)، فكانت الفضاء الذي طالما التقى فيه أصدقاءه الذين يحب رفقتهم، وهناك في مساحة في الهواء الطلق أحاطها بشبك مانع للبعوض، دارت بيننا حوارات كثيرة جلها عن الفن أو حول ليبيا ومستقبلها، وفيها أُلقِيتْ قصائدُ شعرية طازجة وجرى النقاش حولها. وتحول ذاك الفضاء البسيط إلى منتدىً ثقافي يؤمه كل زائر إلى بنغازي من المدن الأخرى، ودائمًا كنا نضرب مواعيد اللقاء في مزرعة فرج التي كنا نستدل على مكانها بلافتة مرسوم عليها فيل على يمين الطريق.

كان فرج محبًا للموسيقى والشعر والأدب عمومًا، ولا يحب أي إسفاف في هذه الأنشطة الجمالية، وانعكس هذا الحب في ترجماته للأدب، فجمع بين أمانة الترجمة وحرصه على جمال الصياغة وقاموس المفردات في اللغة المنقول إليها، وفي قراءتي لترجمته كتاب «أهل الله» الصادر عن دار الفرجاني، كنت أتوقف عند الكثير من المقاطع الكثيفةِ الشعرية التي استطاع أن يحافظ على حرارتها وعمقها وجمالها في اللغة العربية، وبعصامية استطاع أن يثبت اسمه كأحد أهم المترجمين العرب للأدب الذي تعامل معه في بداية تجربته قبل أن ينتقل إلى كتب السيرة أو التحليل السياسي دون أن يتخلى عن جمال الصياغة وإتقان العبارة ما وسعه ذلك، وهذا ما ألمسه في الكتاب الذي أقرؤه الآن «بنغازي» الصادر عن دار الفرجاني، وهو كتاب مهم جدًا يرصد بالتفاصيل ما أحاط بمقتل السفير الأميركي، كريس ستيفينز، في بنغازي، ويتعامل الترهوني فيه مع لغة سياسية كتبها الدبلوماسي الأميركي الذي عايش الحدث في بنغازي، إيثان تشورن، بأسلوب سردي ماتع يضيء الكثير من الغوامض في تلك المرحلة الصعبة، وما سبقها، وما يُتوقع أن يأتي بعدها، ليس في ليبيا فقط ولكن في العالم كله، وفرج الذي يتمتع بهبة دبلوماسية فطرية التقى مع لغة هذا الدبلوماسي الكاتب ومع أسلوبه السردي الذي نقله إلى العربية بانسياب يجعل هذا الكتاب، إضافة إلى أهميته التاريخية والسياسية، في قمة الإمتاع أثناء القراءة.

في رحلة قمنا بها العام 2001 إلى مصر (فرج الترهوني، أحمد الفيتوري، عبدالسلام العجيلي، يوسف دربي، وأنا) كان الرفيق الهادئ والجميل، ومثلما وصفتُ الصديق محمد الفقيه صالح بالنسيم، كان فرج أيضًا مثل النسيم الذي يختفي أو يغير مساره كلما هبت عاصفة في حوار أو رفقة، فبالنسبة له لحظات اللقاء والسعادة يجب ألا يعكر صفوها شيء لأنها قليلة في وطن يوزع النكد والتجهم بعدالة، وهذه الأوقات المسروقة من وسط الضجيج يجب أن تُستثمر إلى أبعد حد في كل ما يفيد ويبهج.

بعض ترجمات الأستاذ فرج الترهوني
بعض ترجمات الأستاذ فرج الترهوني

وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر حين كنا هناك، ورغم ما اتصف به الحدث من ترحيب لدى قطاع واسع لا يخلو من شماتة، فإن فرج كان حزينًا، لأنه كاره للعنف بكل أنواعه، ومثل هذه العمليات التي تقتل الأبرياء ضد قناعاته وضد الحضارة وكل القيم التي آمن بها واشتغل ضمنها، لم ينخرط في النقاش حولها كثيرًا لأن الأمر مزعج بقدر ما يلفه الغموض، وإن المترتبات عنه في المنطقة لن تكون محمودةً أبدًا كما قال مرة في مداخلاته المقتضبة التي لا ينفك يقولها بهدوء حتى وهو في ذروة غضبه. ومن الهاتف الأرضي في الشقة التي سكنا فيها بحي كامل عراب في الإسكندرية، كان يتصل بزوجته يوميًا، ويتخذ زاوية ليهمس إليها بمشاعر الحنين كأي عاشق فتيّ أو زوج في شهر العسل، فكان دفء البيت منفاه من قسوة المحيط، وملاحقة أسراب الجمال في الترجمة منفاه من ثقافة ولغة دارجة تتلوث تحت أنظمة القمع برطانة العنف وقاموس الكراهية والضغائن، وبين هذين المنفيين أنجز مكتبته الخاصة من التراجم، وإضافة إلى كتابه «مناكفات» الصادر عام 2007 عن دار الهلال بمصر، وفي رحلة بدأت منذ العام 2003 وحتى اللحظة، ترجم فرج الترهوني كتبًا مهمة تضاف إلى كنوز المكتبة العربية، وهي تباعًا: كثبان النمل في السافانا ـ رواية، تشنوا أشييبي، المجلس الأعلى للثقافة، سلسلة إبداعات عالمية، الكويت ــ حرب في زمن السلم: تاريخ سياسي، ديفيد هالبرستام، الهيئة القومية للبحث العلمي، ليبيا ــ فتيات في حرب، مجموعة قصصية، تشنوا أشييبي وآخرون، مجلس الثقافة العام، ليبيا ــ إعدام المجند سلوفك، رواية تحقيقية وسيرة، وليام هيوي، مجلس الثقافة العام، ليبيا ــ ترجمان الأوجاع، رواية، جلومبا جاهيري، مجلس الثقافة العام، ليبيا ــ فتاة الوشاح الأحمر، مذكرات تاريخية عن الصين، جي لي جيانغ، دار كلمة للترجمة أبوظبي ــ التحفة الفنية، رواية، آنا إنكويست، دار كلمة للترجمة أبوظبي ــ الأخبار من بارغواي، رواية، للي توك، دار كلمة للترجمة أبوظبي ــ موت فيشنو، رواية، مانيل سوري، دار كلمة للترجمة أبوظبي ــ أعمدة الملح، فاديا فقير، دار ألكا العراق ــ لعبة الحياة والموت، رواية، مو يان ــ الشاطئ الرابع، رواية، فرجينيا بايلي، دار الفرجاني، لندن ــ أهل الله: مذكرات تسجيلية عن ليبيا، أغنس نيوتون كيث، دار الفرجاني ــ المجند، رواية قصيرة عن حرب الأحباش في ليبيا، غيبريسوس هايلو، دار الفرجاني ــ بنغازي: نظرة جديدة إلى حادثة بنغازي وتأثيراتها على العالم، إيثان تشورن، دار الفرجاني ــ حرّة: بلوغ الرشد عند نهاية التاريخ، مذكرات تسجيلية عن ألبانيا، ليا يبي، دار الفرجاني.


بوابة الوسط | 21 أغسطس 2024م

مقالات ذات علاقة

العقل المعتقل

عمر الكدي

تنوير

منصور أبوشناف

فتشوا عن هويتكم

نجيب الحصادي

اترك تعليق