تنتمي نصوص المجموعة القصصية (بلاد الكوميكون) للقاصة المحامية عزة كامل المقهور إلى ما يعرف بالأدب الواقعي الذي يتأسس على طرح الأفكار الموضوعية الجادة، وتصوير مشاهد الحياة المعاشة في الواقع المكاني والزماني تصويرًا فوتوغرافيًا خالياً من لمسات الخيال الفسيحة.
وهذه الخصائص الأساسية للواقعية الموضوعية الصارمة، تجعلها تبتعد عن تضمين النصوص الإبداعية عواطف الكاتب ومشاعره وانطباعاته الذاتية الخاصة، وتركز اهتمامها على القضايا الإنسانية التي تمس حياة الناس والشعوب والمجتمعات بشكل أكثر شمولية واتساعاً.
والتيار الواقعي هو الذي انصبغت به القصة الليبية القصيرة منذ بواكير بداياتها، فسجلت الواقع الاجتماعي ووثقت الكثير من الأحداث في أشكال قصصية اتسمت ببساطة اللغة التعبيرية، واستحضار شخصياتها من رحم الحياة الاجتماعية، ووضوح صورها الفنية بدقائق تفاصيلها، واستخدامها غالباً اللهجة المحلية في حوارات شخصياتها. كما ظل فضاءها المكاني لا يغادر جغرافية البيئة الليبية الضيقة وتصوير معالمها وعاداتها وثقافتها، بهدف إثارة القضايا الاجتماعية مثل حق المرأة في التعليم، وترسيخ قيم العدل والمساواة وتوطين بعض المظاهر العصرية في المجتمع.
> بلاد الكوميكون وقصص أخرى
(بلاد الكوميكون) هي المجموعة الرابعة الصادرة للقاصة وتحتوي على تسعة عشرة قصة تسجل مشاهدَ متعددة من الرعب والفساد والحرب التي تتواصل داخل ليبيا بعد انحراف ثورة فبراير 2011م عن مسارها وأهدافها الحقيقية. وتسلسلت قصص المجموعة كالتالي: شجرة الليمون، دعكة فروخ، جنة العريف، التاكسيتي، موجلي وشيرخان، ناسبولي، ليم دمي، عليوة الببغاء، رأسه حليق أخضر، القطوس، بلاد الكوميكون، حوش اليتريك، ياااااا بوسته، طماطم يابس، عام الولايا، عسلوز، الحليمة، القصعة، السنفاز، واستغرق إنجاز قصص هذه المجموعة حوالي خمسة سنوات منذ كتابة قصة (السنفاز) بتاريخ 6 يناير 2013م وحتى 25 يناير 2018م بإنجاز قصة (شجرة الليمون).
> العنوان وسيميائية الغلاف
العنوان هو هوية النص وكينونته واسمه وتعريفه، والبوابة الأولى التي تقود عقل ووجدان القاريء إلى دهاليزه، وهو كذلك النص الموازي والمتفرد بذاته، وهذا ينطبق على جميع العتبات المحيطة بالنص (العنوان، الإهداء، التمهيد، المقدمة، الحواشي، التوطئات، وغيرها). وفي هذه المجموعة اختارت القاصة أن تتصدر قصتها الحادية عشرة المنشورة بها وهي (بلاد الكوميكون) لتكون العتبة النصية الأولى للمجموعة كلها، مما يمنحها تفرداً وخصوصية وأهمية عن القصص الأخرى، وهي تعتبر من القصص الطوال عند القاصة ليس في هذه المجموعة فحسب، بل خلال مشوارها الإبداعي كله.
ومفردة عنوان المجموعة (الكوميكون) المتداولة عالمياً كمصطلح، تحيلنا مباشرة إلى المجال السياسي والاقتصادي، وتحديداً إلى منظمة الكوميكون الدولية (منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية) التي أسسها الاتحاد السوفيتي سنة 1949م لمنع دول أوروبا الشرقية الواقعة تحت نفوذه من بناء علاقات مع أمريكا وأوروبا الغربية. وفي جانب آخر كذلك نجد مفردة (الكوميكون) تطلق على الأفلام والقصص الفنية المصورة للشباب، والتي تسمى (كوميكس) أحياناً، وهي لون فني حديث يعد متنفساً ومجالاً إبداعياً مفتوحاً لإبراز مواهبهم وعرض إبداعاتهم وتطوير مهاراتهم.
ولكن القاصة اتخذت هذا المصطلح رمزاً لبلادٍ إفتراضية أسستها في خيالها وأغدقت عليها الكثير من الواقعي الحقيقي بتمازج جميل رغم مرارته لأنه يعكس ما تعيشه بلادنا ليبيا من تردي أمني وفساد اقتصادي وفشل سياسي وتمزق اجتماعي. وتعرف القاصة بلادها منذ بداية القصة بقولها (تقع بلاد “الكوميكون” على شريط بحري طويل، كثير من سكانها لا يسبحون، تتزاحم فيها المساجد وتختفي مآوي اليتامى والفقراء والمشردين والمعنفات، يتبادل حكامها ألقاب الفخامة والمعالي والسعادة ولا يتبادلون التحايا. يقفزون إلى كرسي الحكم مصادفة، تنتظم فيها الطوابير بالسلاح، يتربى الذكر في حضن المرأة ويعاديها، تنطفيء فيها أعمار شبابها وتتقد سنين كهولها، القاتل فيها ثائراً والقتيل شهيد، تخّرج جامعاتها العاطلين، يشحن منها العسل الأسود ويشح فيها الوقود، يدفيء غازها بلاد الشمال ويصطك سكانها برداً. تبيع ثرواتها وخزانتها مفتوحة وخاوية. تتكاثر فيها المقاهي وتحتضر المكتبات، يصمت فيها الفن ويخجل فيها الرقص، يقيم السفراء إليها خارجها ويلتقي زعمائها على أرضٍ غيرها، مشمسة على مدار العام وبلا كهرباء. قليلة السكان ومدنها مزدحمة. يتضاعف معلموها وتضعف فيها الإملاء. إذا أصاب سكانها سقم غادروها وعادوا إليها في كفن، يجالس رجالها المقاهي، وتدب نساؤها في الأرض باكراً باحثات عن الرزق وحاملات لوزر الأبناء.)
ومن خلال هذه الصفات البليغة والدقيقة التي وضعتها الساردة لنمط الحياة المتناقضة في “بلاد الكوميكون” الافتراضية، نكتشف مدى الفوضى والفساد العملي، والتخلف الفكري، الذي تغرق فيه البلاد، وحجم المعاناة الإنسانية التي يكابدها أهلها. وكما هي خصائص الأدب الواقعي فقد جاء الوصف بلغة واضحة وبسيطة في مفرداتها وتركيبات عباراتها الساخرة، وعميقة في دلالاتها ورمزيتها تضج بالمرارة والألم، مما يفجر براكين الغضب وأحاسيس التحسر والتعاطف في آن واحد، خاصة حين نكتشف أن “بلاد الكوميكون” ليست دولة متخيلة لا وجود لها في الواقع، بل هي حقيقية على الخريطة الجغرافية، وما الاسم إلا قناعاً ألبسته القاصة لبلادنا الحبيبة بكل واقعية وصدقية المشاهد المؤلمة التي استعرضتها في متن تلك القصة.
وأبرز الغلافُ الخارجي اسمَ المجموعة مكتوباً باللون الأحمر، الذي ربما يرمز إلى دماء الأبرياء الذين أزهقت أرواحهم ظلماً وغدراً في بلاد الكوميكون أو أولئك الذين ينتظرون دورهم كذلك. أما تقاسيم وجه وعينيّ اللوحة التشكيلية التي رسمتها الفنانة فاطمة الفرجاني فقد انصبغت باللون الأزرق الغامق، الذي ينسب إليه الحزن والقلق نتيجة برودته في بعض الثقافات، بالإضافة إلى معاني الانحرافات واللغة البذيئة والتردي الاخلاقي. كما يرتسم أيضاً الغموضُ والقتامةُ والفوضى المبعثرة على وجه اللوحة فتطفح منه نتؤات وندوب وكائنات صغيرة تفقده صفاء نضارته وجماله وألقه، كما توصد فم الوجه قضبان متعامدة تحكم إغلاقه لتصادر حقه في التعبير والكلام.
إن كل هذه العناصر الفنية الإيحائية والرمزية واللونية بغلاف المجموعة القصصية ومواجهة العينين المسكونتين بالقهر والدمع الصامت والرصد والتوجس، تتداخل عليها خطوط متعددة متقاطعة ومتوازية، وفي اتجاهات مختلفة، ودوائر ومسارات لا أفق فيها، وهو تجسيد واقعي للحالة الفوضوية الراهنة التي تعيشها بلاد الكوميكون، وما يعشعش فيها من فساد ورعب وقتل واضطراب وقلاقل، ممثلاً ومصوراً في واقعية قصصها بكل مشاعر الأسى والحرقة، لإبلاغ الرسالة الشهادة التي تسعى القاصة إلى بعثها في فكر ووجدان القاريء من خلال التصميم التشكيلي لهذا الغلاف باعتباره المصافحة الأولى مع المتلقي.
إن غلاف المجموعة وعناوين القصص ظهرت صريحة واضحة، تبعث جاذبية وإغراء ودعوة للاستكشاف، وتؤدي وظائفها الدلالية، وتعكس مضمون أفكارها التي تعبر كلها عن الانشغالات المؤلمة لما يجري داخل ليبيا من انهيار شامل لمنظومة القيم الأخلاقية والسلم الاجتماعي والتردي الاقتصادي والفشل السياسي.
> الفضاء المكاني في (بلاد الكوميكون)
المكان في النص القصصي كما يراه الأديب الفرنسي “غاستون باشلار” (سواء أكان كبيراً كأفق الوطن، أم ضئيلاً كخزانة الملابس، يترك أثراً يعلق بالنفس، ويخلق قيم الألفة، والارتباط بالواقع والحلم)3) ولا شك بأن سطوة الأمكنة تبعث انتفاضة وتفجيراً للمشاعر والأفكار أثناء الكتابة، وإيقاظ الذكريات، والإحساس بدفء المعالم وحضور الشخصيات، وكل هذا ينتقل عبر أسلوب النص ومفردات لغته إلى وجدان القاريء الذي يؤثر فيه، ويتفاعل معه وربما يزيده إثراءً.
وقد تجلى المكان في قصص (بلاد الكوميكون) بكل جوانبه القديمة والحديثة، الماضوية والراهنة، وتاريخه المجيد وحاضره البائس المرعب. وفي جميع الأحوال ظل هو المحرك الأساسي الذي تتعلق به القاصة وتتجول بين أركانه وحدوده، وتعبر عن مخاوفها لما يتعرض له من دمار وخراب، ويحاك ضده من دسائس داخلية وخارجية لأنه وطنها وبلادها ونبض قلبها.
واستطاعت الكاتبة في (بلاد الكوميكون) أن تحدد المكان الحقيقي باعتباره وعاءً فكرياً، وملهماً إبداعياً سواء بشموليته واتساعه بربوع ليبيا كافة، أو الطرابلسي في إطاره الجغرافي المحدود والذي حاز نصيباً وافراً لكونه مهد نشأتها وحياتها وحضنها وذكرياتها ونبض قلبها، حضوراً وانتماءً وتعلقاً، وإطلاقه في الفضاء السردي حتى إن لم يظهر بين سطورها صريحاً تعلنه أسماء الأمكنة والشوارع والأحياء مثل “جنة العريف” و”حوش اليتريك” و”بوسته” و”سوق الجمعة” “وبوهريدة” و”الظهرة” و”صلاح الدين” وبلخير” و”سيدي منيذر”، وكذلك مدنه المختلفة “الزاوية” و”بنغازي” و”تاورغاء” وغيرها، فإنه يلتصق بالمالوف والتراث الشعبي والأغاني والزمزامات والشعراء والأدباء والبحر والتقاليد وغيرها من العناصر التي توطنه في كيانها الإنساني فتسميه بشكل غير مباشر ليهزها عاطفياً ويتدفق في فكرها مؤدياً دوره التفاعلي، ليرسخ في النصّ القصصي هوية وطنية.
> (بلاد الكوميكون) القصة داخل القصة:
مفهوم (القصة داخل القصة Story within a story) هي تقنية سردية إبداعية تظهر غالباً في الأعمال القصصية والروائية، يتم فيها سرد قصة “فرعية” داخل قصة أخرى “أساسية”، وتسمى أحياناً (القصة الإطارية) مثل قصص التراث العربي في ألف ليلة وليلة التي واصلت فيها “شهرزاد” زمناً طويلاً من خلال إثارة قصص متداخلة ومترابطة. وهذا الأسلوب الفني في السرد يتيح فرصة إضافية للراوي لبعث الكثير من التشويق، مع المحافظة على عناصر الصلة والترابط بين القصتين سواء من حيث البطل المشترك أو رمزيته، أو المكان بكل معالمه وأزمنته، والتي يستعمل فيها بعض الكتاب عملية تكرار عبارة معينة أو أيقونة يتم تدويرها لربط القصتين معاً حسبت سياقات النص ومضمونه.
ولقد ظهرت قصة (بلاد الكوميكون) بالمجموعة القصصية كقصة إطارية منفردة بنفس العنوان، متضمنة سبعة قصص قصيرة بداخلها، استقلت بعناوينها البارزة، التقطتها القاصة من وقائع الانتهاكات الخطيرة في ليبيا، وبأسماء شخصية ذكورية وأنثوية (حاتم، هالة، محي الدين، عادل، نهلة، دعاء، شاكر) وهي حتى إن اختلفت في جنس شخصياتها وطبيعة وأمكنة وظروف وقائعها وصور أحداثها، إلاّ أنها تشاركت في كون جميع أبطالها ضحايا أو شهودَ أحداث مرعبة طالتهم وأدت إلى نتائج فادحة تتراوح بين القتل والخطف والهجرة والضياع … والموت.
وقبل استعراض ملخصات حكايات أبطال تلك القصص السبعة، يتبادر إلى الذهن سؤال فني وهو لماذا لجأت القاصة إلى أسلوب القصة داخل القصة؟ ولماذا لم تفرد للقصص السبعة مكانة مستقلة، ومساحة خاصة بجانب القصص الأخرى؟ ومحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة تقودنا إلى التخمين بأن القاصة ربما أرادت خوض مغامرة تجريب هذا النوع السردي لأنه يتيح لها تضمين القصة الإطارية الأساسية العديد من القصص الفرعية الأخرى داخلها، وبالتالي يمنحها نفساً تعبيرياً أكبر وبراحاً وصيفاً أطول قد تستثمره في عمل روائي قادم. أو ربما هذا الاختيار هو لتعزيز فكرة القصة الإطارية بالعديد من الشواهد والأمثلة من الوقائع والأحداث التي تعرضها في قالبها القصصي، كما ظهرت في القصص السبعة في تسلسلها التالي:
– القصة الأولى: “حاتم” الذي تقاطعت دراسته مع الثورة (فحملته في طريقها كورقة التوت وألقت به في إحدى المعسكرات. كان في البداية فرحاً بالوقوف عند البوابات يستمع إلى دعاء النساء وتشجيع الرجال ويرى من خلال الزجاج ابتسامات الفتيات المحتشمة، لكن… شيئاً فشيئاً انقلب الدعاء إليه عليه، وانكسرت نظرات الرجال أمام بندقيته، ورأى الرعب في عيون الصبايا. نظف حاتم بندقيته، لفّها في قطعة قماش وسلّمها لأمّه. «دسّيها ما عاش نبي نشوفها ولا نبي نعرفها وين». … في ذلك اليوم، في بلاد الكوميكون حين ألقي القبض عليه، كان حاتم ينظم مظاهرة على حافة المدينة قريباً من البحر..)
– القصة الثانية: الطبيبة “هالة” التي (عشقت عملها، تلقي ببالطوها الأبيض على كتف الكرسي المجاور كي يراه المارة أو شرطي المرور أمام مدخل المستشفى «تفضلي دكتورة» وتستمع لأغاني «محمد حسن». تقفز درجات وتسرع في الممرات، وتنهمك في غرف العمليات، وتسحب بيدين خبيرتين المواليد من رحم الأمهات… “مبروك المزيود..”.. وحين اقتحم المسلحون غرفة الإنعاش وأردوا جريحاً قتيلاً.. تمدّدت بقع الدم على الشراشف حتى ما عادت قادرة على امتصاصها فتساقطت وتتابعت وتجمدت على البلاط ثم خطت مسارها عنوة تحت عجلات الأسرة المتنقلة.. في ذلك اليوم، في بلاد الكوميكون، جلست هالة بمحاذاة شاطئ البحر، حين هاجمها رجلان بمسدس ودفعاً بها عنوة إلى سيارة تويوتا عالية.)
– القصة الثالثة: الشاعر “محي الدين” الذي (حين نشر نصوصه في كتاب، وقف أحدهم يتهمه بالإلحاد والكفر وازدراء الأديان وتبعه آخرون وكانوا كلهم ملثمون، يتحدثون بلغته لكنهم لا يفهمون كلماته، بل طوعوها إلى كلمات ليست له.. في ذلك اليوم، وقف محي الدين على شاطئ البحر، حاملا حقيبة ظهر بها نسختين من كتابه، مرتديا جاكيتة بلاستيكية منتفخة، دخل وهو يتأرجح بساقٍ تلو الأخرى إلى مركب مطاطي، جلس بصعوبة ما بين الجالسين يتمتم بآيات قرآنية ضلت أذنه التي غلفها صوت المحرك، تنفس بعمق رائحة الديزل التي لوثت ملوحة البحر وتركت لوناً بنياً خلف المركب. من يومها لم تطأ كلماته أرض بلاد الكوميكون، ولم تصل إلى أي أرض أخرى، لكنها انسكبت في البحر كما انسكب بشر عديدون.)
– القصة الرابعة: “عادل” الذي (ترك مقاعد الدراسة، وكان حلمه أن يفتتح مطعماً صغيرا في زاوية بإحدى الشوارع القريبة.. ولمبتغاه التحق بالعمل في إحدى مقاهي المدينة ونبغ في إعداد اكواب «الكابتشينو» حتى أطلق عليه أولاد الشارع «عادل كابتشينو».. في ذلك اليوم، في مدينة الكوميكون، وبينما كان يرفع الستار المعدني لمطعمه مصدراً صوتاً مزمجراً، كانت قطعة مستديرة أخرى تتجه نحو رأسه على حين غرة، لكنها معدنية، صفرت تحت أذنه واستقرت في جمجمته. «رصاصة طايشة» صرخ المارة.. وإن كانت طائشة لكنها كانت قاتلة.)
– القصة الخامسة: الشابة “نهلة” التي (غامرت ودخلت عالم التصميم، رسمت وفصّلت وخاطت، وتجاوزت هذا كله لتصبح عارضة أزياء، ترتدي صناعتها وتلتقط الصور أمام معالم المدينة.. سرت الصور في العالم الافتراضي سير الكهرباء في الأسلاك.. وكلها جسد بلا رأس، كانت كالنعامة التي تدفن رأسها خارج الصورة كي لا تفصح عن هويتها.. في بلاد الكوميكون همهم الرأس المقطوع.. كانوا كمن يلعب الكلمات المتقاطعة أو أحجية الصور المقطوعة، لم يهدأوا حتى ركبوا الرأس على الجسد، عرفوا اسمها واسم أمها وأقاربها ثم عنوانها. «تقلد في الأجانب».. «ناقصنا غير عرض الأزياء»، «ثقافة دخيلة»، «ظاهرة هدامة».. في ذلك اليوم، أقفلت أمها على علبها المعدنية وتوقفت عن لظم الإبر وأودعت المقصات درجاً عالياً، أما أبوها فقرّر لها أقصى عقاب بأن جردها من حق الوصول إلى ذبذبات الصندوق ذي الأضواء الصغيرة البارقة).
– القصة السادسة: (أقامت “دعاء” معرضها الأول صحبة شباب آخرين، تحولت حيطان القاعة الباهتة إلى أضواء وظلال، سرت همهمات واتسعت عيون وتقوست الحواجب إعجاباً. كان على هذه اللوحات أن تبقى، شاهدة على الحرب ولبنة للسلام، كان على الخطوة أن تتبعها أخرى، فاستأجروا قاعة مهملة مكاناً لصناعة الفن وتعليمه … ذات يوم، اقتحم القاعة مسلحون، منهم من كشف وجهه وآخرون ملثمون…
(صرخ أحدهم..
«شني ولاد وبنات… معيز وضان»؟
«يا والله حاله»!
«وين اماليكم»؟
و«يا حاج، الفرخات بروحهم… والفروخ بروحهم.. هذا آخر كلام».)
في اليوم التالي، تفاجأت دعاء ورفاقها بقفل كبير يخنق سلسلة على الباب، منعهم المؤجر من الدخول واسترداد لوحاتهم. «قاموهم أمس كلهم.. بيحققوا معاكم راهو.. أنا ما خصنيش».)
– القصة السابعة: (.. كثيراً ما يفكر شاكر في أن سكان بلاد الكوميكون ماهم إلا آلات تمشي بعقول معطلة… يبتسم، يخرج نقاله ويكتب في صفحة الملاحظات:
«حب للنهاية مع بعض ديما قراب/ وعدني هيكون معايا اليوم فص ملح وذاب.. خلاني في العذاب كان في حبه كذاب/ عيشني قصة حب عنوانها سراب.. في القلب خلا جروح خلا دموع خلا عَبره/ إسمع مني القصة وخوذ منها عِبره».
ثقلت هموم شاكر كما حال كل شباب جيله.. ألقت الحرب بشباكها عليهم أعاقت حراكهم وسجنتهم في مربعات سوداء.. كل شيء بات صعباً.. حتى كلمات أغانيه، تخرج مثقلة مهمومة صدئة حارقة نازفة.. تخرج بحروف ناقصة ونقاط هاربة ونهايات حزينة.. جيل متعب عليل منكسر في شبابه.. لا ريعان ولا ريحان.. شوك وسموم وموت واكتئاب.. فقر وأرق ومستقبل غمام. لا تنتهي بلاد الكوميكون كسائر البلدان بأفق.. لكنها تنتهي بدخان ورصاص وحرائق وتفجيرات.. حدودها خط أسود يقترب بتمهل غريب يشي بنهايات مفزعة.. في ذلك اليوم، أنهى شاكر وصلته، حمل المسجل ومكبر الصوت، واتجه نحو الطريق باحثا عن «ايفكو» يحمله إلى كامبو الشركة التركية. على بعد خطوات كانت سيارة بيضاء عالية تنتظره كتب عليها «جهاز مكافحة الظواهر الهدامة»، انسل منها ثلاثة مقنعين بقناع أسود، اتجهوا نحوه، لم يرهم، كان مشغولاً بترتيب كلمات جديدة لأغنية قادمة.. أمسك أحدهم ذراعه، اختطف الآخر مسجله ورماه أرضاً، وصوب ثالثهم مسدسه نحو بطنه. «أركب يا ملحد.. صار رقص وراب.. أركب يا….».)
إن أجواء هذه الالتقاطات القصصية المأساوية المؤلمة التي استعارتها القاصة من قتامة اليومي المرعب والدموي المترصد في كامل ربوع بلاد الكوميكون، التي تحيط بالقاريء عند قراءتها قادرة على بعث هواجس الخوف والرعب والمواجهة وصور التعذيب في خياله، وتتسرب في أوصاله مع كل قصة من هذه القصص السبعة ليشعر بأنه ليس بعيداً عن الموت بأية وسيلة قذرة، وفي أية لحظة كانت، طالما هو في بلاد الكوميكون.
أما فنياً فقد برعت القاصة في تدوير عبارتها (في ذلك اليوم، في مدينة الكوميكون) وجعلها جرساً في أذن القاريء، ورابطاً بين القصص السبعة الفرعية والقصة الإطارية الأساسية، وبالتالي استطاعت بناء هيكل نصي متماسك ومتعاضد بأكمله في توظيف عناصره المشتركة لبث رسالة النص بكل سلاسة ووثوق وهي التأكيد على خطورة الحياة في بلاد الكوميكون.
> الخاتمة:
إذا كانت مجموعة (إمرأة على حافة العالم) قد برهنت على تميز قصص عزة كامل المقهور من حيث هوية مواضيعها، ورهافة أسلوبها، ودفقات أنفاسها، وغزارة قواميسها اللغوية في العديد من المجالات والتخصصات المنزلية الداخلية والخارجية الأخرى، فإن (بلاد الكوميكون) هي إثبات بأن كتابات المرأة الليبية قد تجاوزت الشأن العاطفي برومانسيته التقليدية، والجانب الذاتي الخاص بنعومته وأحلامه الصغيرة، وصارت أكثر موضوعية وانغماساً في الهم الوطني بأبعاده الإنسانية والاجتماعية، وهذا بلا شك بفعل تطور الأدوات السردية للقاصة الليبية التي دأبت على ذلك منذ صدور (من القصص القومي) سنة 1958م للراحلة زعيمة الباروني رائدة القصة القصيرة في ليبيا.
كما أن تصدي الكاتبة الليبية في قصصها للقضايا ذات الأهمية الإنسانية الأكبر والإنشغال بهموم الوطن والتركيز على إثارة المشاكل الخاصة ذات الهوية الليبية، ونقد بعض المواقف السياسية، وإدانة الحروب الداخلية بكل ما تحمله من دمار نفسي وخراب مادي وخطف وتهجير وقتل وترهيب وفساد مالي واقتصادي، مثل مجموعة (بلاد الكوميكون) هو رد على ما كتبه الأستاذ كامل المقهور في مقالته (قصتنا بنت حرام) والتي ينتقد فيها باستنساخ مواضيع لا تمت للمجتمع الليبي ولا تؤدي وظيفة وطنية حيث يقول (القصة النسائية إن وجدت في حاجة إلى قليل من الشجاعة والعمق، في حاجة إلى أديباتٍ متحررات لا يخجلن من آرائهن ومشاعرهن المشتركة بينهن وبين باقي النساء، أما أن يقفن مكتوفات الأيدي أمام حياتهن، ويهربن إلى الزهر والطبيعة، فليس له إلاّ تعليل واحد، ربما يكون قاسياً ولكنه حقيقة.. الجبن الاجتماعي الذي يجب أن تخلو منه حياة الأديب.. أو الأديبة).
هل نقول إن الإبنة القاصة قد تنبهت لهذه الدعوة المبكرة وتبنت هذا النهج التحريضي الذي أطلقه الراحل في مقالته بمجلة (صوت المربي) الصادرة في يوليو 1955م، لتكون بإصدارها (بلاد الكوميكون) نموذجاً لمسيرة جديدة في القصة الليبية النسائية؟.. نترقب ذلك بكل شغف، وانتظار، ولهفة، مع دعواتنا لها بالتوفيق ولكل الكاتبات والقاصات الأخريات.
هوامش:
(*) ورقة الكاتب في أمسية احتفاء السقيفة الليبية بأعمال الأديبة الليبية عزة كامل المقهور، تونس 12 سبتمبر 2022.
(1) بلاد الكوميكون وقصص أخرى، عزة كامل المقهور، دار الرواد للنشر، طرابلس، ط1، 2021م.
(2) المصدر نفسه، ص 105.
(3) غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة: غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط3، 1987م، ص 43.