النقد

الفضاء وموت الشخصيات في رباعية الخسوف لإبراهيم الكوني

بلسم محمد الشيباني

إن مصائر الموت التي آلت إليها كثير من شخصيات الرواية تحمل في بواطنها ما يؤكد تأثيرات الفضاء في إحداث تلك المصائر ؛ ففضاء في إحداث تلك المصائر ؛ ففضاء الصحراء الذي استوعب وجود الشخصيات وحركتها في الرباعية له طبيعته الخاصة التي تستلزم إلحاق شيء من الهزيمة أمام طابع جبروت الصحراء وسطوتها ليكون (الموت هو الوسيلة الوحيدة لمقاومة الموت واستمرار الحياة) “1”.

ولكن، ليس الموت وحده هو المظهر الدال على الصراع بين الفضاء والشخصيات، وعلى تراجع الشخصيات أمام قسوة الفضاء الصحراوي، وإنما شكل الموت هو المحدد الحقيقي لعمق ما يدفع إليه الفضاء من فجائعية واندهاش.

وقد تعددت الشخصيات المتوفاة في الرباعية، فشملت المرأة والرجل إذ لم تستثن المرأة من فجائعية صورة الموت، حتى وجدناها منتحرة ووجدناها مقتولة مثلما كانت متوفاة بدون هذا أو ذاك.

وتنوعت الشخصيات المتوفاة بين شخصيات مشاركة في صنع الأحداث وبين شخصيات يوردها الراوي أو إحدى الشخصيات على سبيل الذكر.

وما يمكن الوقوف عنده أن الحصر الدقيق لعدد حالات الموت في الرباعية غير قابل للتحقق، وذلك لوجود ما هو غير محدد برقم أو باسم، وهو ما جاء في الصيغ التعبيرية التالية :

قافلة تجارية، عدد غير قليل، عدد لا يحصى، معارضو نوري بك، عدد كبير من الجنود العثمانيين وأفراد الحاشية، قبائل كاملة، كثير من أهالي الواحة في مذبحة جماعية، وفيات كثيرة بمعدل ثلاث أو أربع أو أكثر يوميا، كثيرون آخرون، بعض المجاهدين، عدد كبير من خيرة المقاتلين، بعض المجاهدين، ثلاثة أو أربعة من كل واحة، عدد غير قليل من الشهداء، فرقة بورديللو، حراس آجار ورفاقه، عدد كبير من جنود الطليان.

فهذا التعدد والاختلاف في عدم دقة العدد لا يسمح بتقديم الرقم النهائي للشخصيات المتوفاة في الرباعية، أما إذا استثنينا هذه الصيغ التعبيرية، واتجهنا نحو تلك الشخصيات المحددة بعدد أو باسم فنجدها قد بلغت اثنتي عشرة ومائتي شخصية، عدد القتلى واحد وتسعون ومائة شخصية، وعدد حالات الانتحار خمس عشرة حالة انتحار، والباقي ليس قتلا وانتحارا.

أي أن نسبة عدد القتلى المحددين 89./.، ونسبة عدد حالات الانتحار 7./.، والباقي حالات موت أخرى 4./..

يؤشر كل هذا على أن صورة القتل فاقت صور الموت الأخرى، وأن الحرب كان لها دورها في تجسيد طابع القتل إلا أن ذلك لم يكن المأزق الأساسي للموت، فـ(الشخصية موجودة بلا خيار آخر سوى الموت. ليس في الحرب وحدها وحسب بل في كل مكان لأنها أصلا تعيش على طرف الحياة، وتفكر دائما بمواجهة الاحتمالات القصوى) “2”. ومع ذلك، فإن، المستوى الدلالي يأخذ دوره فيجعل لغير صور القتل دلالة قد توازي ما حققه هذا الرقم المرتفع من حالات القتل، وهو ما نشأ من صور الانتحار المختلفة التي توزعت بين انتحار ماثل في التوظيف الأسطوري وآخر متجسد في أحداث الرواية فكشفت عن اختيار الشخصيات لفضاءات انتحارها، وعن بشاعة الصورة المشهدية الناجمة عن شكل الانتحار.

وفي هذا الإطار كانت الأماكن التالية هي مواضع انتحار الشخصيات:

جبل (أكاكوس)، السدرة الكبيرة، عين الكرمة، (جوار كوخ باتا)، أم النخيل، الجبل.

وهي كلها أماكن وفضاءات تقترن بحركة الشخصيات في الرواية، وتمثل جزءا من الدلالة العامة للخطاب في الرواية.

وكما تعددت صور الموت، وتباينت أعداده، اختلفت –كذلك– أسبابه، لكنها تنحصر في الأسباب الآتية:

الحروب، الأوبئة، العطش، العشق، الجوع، المال والذهب، العاصفة الرملية، الصراع حول السلطة، شدة الحرارة، الدفاع عن القيم والأخلاق، قسوة الإنسان على الحيوان، تحدي الهزيمة من خلال (العزف المتواصل في الحر الشديد دون توقف)، الجهل، الخوف من الحرب، الضياع في الصحراء، قطاع الطرق، المرأة الشرسة، الطوفان، الحسد، الخيبة واليأس، الدفاع عن النفس، الإرهاب، غربة الوطن، الدفاع عن العرض، الثأر، تبكيت الضمير، سطوة المرض، لعنة الأم، و (التبجيل).

هكذا ذكرت كل الأسباب التي قادت الشخصيات نحو الموت لتظل مظاهر تفسر تلك المصائر غير أن السبب الحقيقي وراء كل ذلك هو ” موضوعة ” الموت التي اشتغلت على الخطاب، وجعلت من الفضاء مرتكزا لتمثيل بشاعة الموت حتى كان افتتاح النص بالموت، وفي هذا يقول “أحمد الناوي بدري”: (المبنى الحكائي انبنى على الموت مفتتحا للرباعية ليعطيها بعدا تشاؤميا، وليفتحها على مجاهل لا تغلق إلا بالموت) “3”.

كما ظهرت هذه الموضوعة من خلال تمجيد بعض الشخصيات للموت ؛ فهذا “عياش الدوس” يرى في الموت جمالا لم تستطع الحياة أن تمنحه له، وقد قدّمت لنا الرواية تمجيده هذا ضمن فضاء نصي واسع جاء مرتبطا بمشهد الغروب “4”.

والشيخ غوما يرى في الموت مرادفا للحرية والتمتع بالحياة “5”. ويراه أيضا لصيقا بحياة الصحراء، فهو يخاطب إيدّار قائلا: (دعنا نعود إلى حياة الصحراء المطلة على الموت دائما. كل شيء يهون إذا اتفقنا أن الحياة التي يتهددها الموت هي التي لها طعم وجدير بأن تعاش) “6”.

فالموت يبدو هنا مرتبطا بطبيعة هذا الفضاء الصحراوي، ومع ذلك يرمي إلى أبعاد رمزية ودلالية من حيث طرحه لفلسفة هي جزء من أسئلة الكينونة والوجود.

إن طابع بشاعة الموت الذي أفرزه مآل هذه الشخصيات بدا واضحا من خلال إخضاع الخطاب لبيان كيفية الموت، وفي المقابل اكتفى الراوي بإعلان موت بعض الشخصيات دون تحديد الكيفية، وهذا ما كان مع الحكمدار ومع زوجة الشيخ خليل اللذين لم يتجاوز نبأ انتحارهما الخبر الضيق والمحدود، وكما كان مع العراف “مهمدو” الذي كانت وفاته الحقيقية مجرد إعلان عابر جاء في سياق حوار الشخصيات. وهذا بعد أن خضع موت “مهمدو” إلى الإثارة حيث دفن حيا ظناً أنه ميت، وأخرج من قبره بعد ثلاثة أيام بعد موت وهميّ.

مشهد الإثارة هذا، جعل فضاءات الموت تكتسب خصوصيتها فرأى “مهمود” في قبره ما لا يتمكن أحد من رؤيته، وذلك للمزج بين طابع الحياة والموت في الصورة الواحدة.

خاتمة مشاهد الموت كانت مع الشيخ “غوما” الذي مات وهو على ظهر المهري دون مشقة أو عذاب أو صراع مع الموت ليكون موته تبجيلا له، وليكون ظهر المهري فضاء مرتفعا دالا على ارتفاع شأن الشيخ “غوما” وعلوه.

وبمثل ما انتهت حياة الشيخ “غوما” بالموت انتهت الرباعية بسقوط القوقعة من جيب الشيخ “غوما”، وبغوصها في الرمال مع بقاء جزئها العلوي المزين متلألئا متألقا “7” ؛ فهي بذلك رمز لانتهاء شيء وبقاء لآخر.

الهوامش :

هذا  الموضوع هو جزء من الرسالة التي تقدمتُ بها إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب بجامعة الفاتح لنيل درجة الماجستير، تحت عنوان (الفضاء وبنيته في النص النقدي والروائي– رباعية الخسوف لإبراهيم الكوني نموذجا)، و كانت بإشراف الأستاذ الدكتور محمد مصطفى بن الحاج، وعضوية الأستاذين ؛ الدكتور عمر خليفة بن إدريس، والدكتور على عبد المطلب الهوني، وقد منحت خلالها درجة الماجستير بتقدير ممتاز و الإيصاء بطبع الرسالة وتبادلها مع الجامعات.

_______________________________

1- ملحمة الحدود القصوى، المخيال الصحراوي في أدب إبراهيم الكوني، سعيد الغانمي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، لبنان، 2000 ص 15

2- المرجع السابق، الصفحة نفسها.

3- المنظور السردي في رباعية الخسوف لإبراهيم الكوني، أحمد الناوي بن محمد بدري ( رسالة ماجستير )، جامعة قاريونس، كلية الآداب والتربية، بنغازي، الجماهيرية، سنة 1999 ص 80.

4- ينظر نداء الوقواق، إبراهيم الكوني، ط 2، طبعة مقومة، تاسيلي للنشر والإعلام، دار التنوير للطباعة والنشر، ليماسول، قبرص، سنة 1991 ص 86.

5- ينظر المصدر السابق ص 323.

6- ينظر المصدر السابق ص 324.

7- ينظر المصدر نفسه ص 334.

مجلة المؤتمر- تصدر عن مركز أبحاث ودراسات الكتاب الأخضر- السنة: 02- العدد: 19- التاريخ: 09/2003- شهرية

 

مقالات ذات علاقة

البوسيفي والغربة.. من الدخان إلى الضفة

عبدالسلام الفقهي

قراءةُ العتبة النصيَّةِ الأولى في رواية (غواية الفينيكس)

يونس شعبان الفنادي

شاي بلا رغوة

محمد الأصفر

اترك تعليق