محمد عطية محمود-مصر
في مجموعته القصصية “الخيول البيض” الصادرة في طبعتها الأولى سنة 1999، عن الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع والإعلان بالجماهيرية الليبية، والتي ترجمت إلى اللغة الفرنسية في طبعة لاحقة.. يؤسس أحمد يوسف عقيلة لكتابته القصصية القائمة على التعانق بين “الميثولوجي”، بكل ما تحويه هذه المفردة الجامعة للفلكلور والتراث وعلم الأساطير معا، والطبيعة بكل مترادفاتها ومكوناتها الدالة على البيئة الريفية المجاورة للصحراء، بصفة خاصة ولصيقة إلا أنها تنتمي إلى المجتمع الأم / الصحراء بكل ما تحمله من متناقضات ومزايا في نفس الآن.. الصحراء التي تطبع على مبدع أدبها بطابع تلحظه العين الثاقبة من حيث الرهافة الشديدة، مع قوة الروح التي يسبغها المبدع على شخوصه مع سعة الخيال المتفتق والمترجم / الراصد لما وراء العلاقة بين الأشياء، وهو ما يحرك النصوص جميعا في اتجاه هذا الحوار البديع بين إنسان هذا المكان وبيئته وتراثه وأسطورته الذاتية التي تتحرك من خلال جو أسطوري، أو تراثي مشبع بالأسطورة.. وذلك مما يدلل أيضا على أن المبدع ابن بيئته، يستقي منها ما يلفت النظر ويدهش، ويجعل من القصة القصيرة / الحدوتة المروية بمهارة القاص، لا ببداهة الراوي الشعبي أو المؤرخ الفاطن، بلا خلفية صادقة تظاهر النص القصصي وتحميه من الجمود والوقوع في دائرة التسجيلية..
فنحن بإزاء مجموعة قصصية أو مجموعة من اللوحات الطبيعية الموحية والشاهدة على تراث / فلكلور / مد أسطوري يتغلغل في ثنايا النصوص يجعلها بطعم التاريخ الممتزج بتضاريس الأرض، ومشاعر أبنائها، وواقعهم الآني والموروث، المستمد أيضا من هذه الروح الأسطورية.. والمتفاعلة مع إنسان العصر الشاهد على هذا الامتزاج..
* أسطرة الواقع
تتجلى في نص المجموعة الرئيس “الخيول البيض” أسطورة ليبية مرتبطة بخصوصية المكان “الجبل الأخضر” بما يحمله من سحر الجمع بين الريف والصحراء، وما يمكن أن تسقطه هذه الأسطورة على الوعي الجمعي المرتبط بالوعي الديني أيضا من خلال موروث ميثولوجي ديني يتعمق في أرض المكان / الشخصية، ويتآلف مع بنائها وأحلامها وطموحاتها، كما ترتبط هذه الأسطورة بفترة الأربعين يوما التي يشتد فيها الشتاء، لتجزل الطبيعة العطاء لهذه البيئة، فيقول في مفتتح نصه: “.. الليالي الأربعون موسم من مواسم الحكايات..
ـ يقولون إن الراعي “مسعود” قد ذهب بقطيعه إلى الأودية.. فهذا أوان ظهور الخيول البيض.
ـ مسكين هذا المسعود.. منذ سنوات وهو يفعل ذلك في عز الشتاء.. لكن دون جدوى” ص 24.
ليحتكم النص هنا، مع ارتباطه بعنصر الحكاية التي تمثل عصب العلاقة بين الواقع والموروث، إلى هذا الوعي الذاتي الباحث عن أسطورته الخاصة التي تتحقق بها وفيها آماله، والمرتبط بالوعى الجمعي الذي يدور في فلك هذه الطبيعة والواقع تحت أسر هذا الموروث الديني / الشعبي، الأسطوري الذي يسبغ سماته على هذه الظاهرة، وذلك مما يبدو من الحوار الدال، والذي يلعب دورا هاما كأداة من أدوات فنية الكتابة في هذا النص:
“ـ ويقولون أيضا أن من يرى الخيول البيض يحقق كل أمانيه
ـ ويتزوج من يشاء
ـ الخيول البيض لا يمكن للنساء أن تراها.
شهقت الأخريات شهقة جماعية: ـ لماذا..؟
ـ لأنها لا تظهر إلا في ليلة واحدة من السنة.. وهي ليلة غير معروفة.. كما أنها لا تظهر إلا في الأودية البعيدة.. وقد تمر سنوات دون أن يراها أحد.. ” ص 25.
لتتماس الأسطورة كبعد ميثولوجي مع ليلة القدر كبعد ديني عقيدي مؤثر يستمد أهميته وقيمته من النص المقدس / القرآن الكريم، وكنوع من التلاقح بين الثقافة الدينية والثقافة الشعبية المختزنة في الوعي الشعبي المرتبط بالعقيدة، وبالموروث في نفس الآن.
إلا أن المفارقة التي يضعها النص في نهايته تضع حدا للحلم المرج تحقيقه، بتفلت هذه الليلة من بين يدي الحالم، ليسير الواقع في عكس اتجاه الأسطورة / الحلم: “في آخر الليل غلبه النعاس.. فاستسلم للنوم بالقرب من الجمرات الخابية تحت الرماد الأبيض.. وقبيل الفجر.. حينما كان مسعود لا يزال مستغرقا في النوم.. كانت الخيول البيض تنحدر مع الوادي.. وقد أخفت السفوح الندية وقع سنابكها.. ” ص27.
بما يدع مجالا لإثارة السؤال حول ماهية الأماني، والتي ربما طرحها نص آخر هو “كاتب الأماني”، وإن كان من منظور آخر، حيث تتحكم خرافة شيخ المسجد ـ كجزء من الميثولوجيا المرتبطة بالتراث غير السوي للدين ـ والتي تتماس مع “صكوك الغفران” التي سادت العصور الوسطى في أوروبا، وصارت جزءا من تاريخ العالم وتراثه المقروء، ودلالة على عمق الهوة بين العقيدة والسلطة الدنيوية، حيث يقول النص في مفتتحه؛ كعتبة دالة كاشفة: “إمام قريتنا يمتلك مفاتيح الجنة.. حتى الأغنية الشعبية تقول ذلك: ” في يديه مفاتيح الجنة “. وهو في كل جمعة يلوح لنا بالمفاتيح من فوق المنبر.” ص 29
حيث تأتي الإشارة هنا إلى هذا الموروث الديني المغلوط، على نحو من السخرية الخفيفة المختلطة بأسى، قد تبدو جلية من خلال الحوار ـ من طرف واحد، وهو نوع آخر من الحوار يوظفه الكاتب ـ الذي يجري على لسان الإمام / الضمير العقيدي لأهل القرية، وإن كان من خلال خطبة يوجهها إليهم، بما يشي بانعدام الحوار المتفاعل، كسمة من سمات العقل والتحضر غائبة عن هذا الحقل الاجتماعي، بهذه النبرة التهكمية الساخرة أيضا والمستبطنة لشعور ذاك الإمام بجهل / دونية الفهم العقيدي لدى هؤلاء الناس: “ـ ولا تكتبوا أمانيكم بخط رديء.. وأنت يا حاج “محيميد” حسِّن خطك. ولا تتعب الملائكة في معرفة ما تريد .. فأنت تصف الحروف بطريقة غريبة.. يعيا الشيطان عن فك رموزها…” ص 30.
كذلك تلوح في النص، تيمة الأمثال الشعبية المتوائمة مع ذات البيئة، والتي يبثها الكاتب في نصه، كتقنية تساعد في طرح أساليب التعبير عن المواقف والحالات التي تستمد من تراث ومفردات البيئة ذاتها، وذلك من خلال حوار آخر لكنه موصول بين الإمام وأحد المأمومين: “ـ يمكنك أن تفعل أي شيء.. “النواة تسند البرميل”.
ضحك محيميد.. وقال بصوت خافت: ـ مع أنني لا أشبه النواة في شيء.. إلا أنك حقا تشبه البرميل!..” ص31.
وهكذا على هذا المنوال، الذي ربما ظهر في متون نصوص أخرى.
ومع تنوع الأماني وتدرجها وتباينها تبدو سمات هذا المجتمع القبلي، وتتمايز شخوصه، لكنها ترتبط دوما بأشياء مادية مرتبطة بالمستوى الأفقي للحياة، في حاجة الراعي إلى كلب وفي يحرس شياهه، والعجوز إلى رجل تستعيد به ما مضى، والأعمى إلى عين يرى بها، والفتاة إلى فارس أحلام يسعدها، ……. إلى آخره..
إلى أن يصل إلى أمنية الصبي الذي يريد “نجمة” في السماء: “انتفض الإمام.. وضع القلم.. شبك يديه.. وأخذ يتأمل الطفل..
ـ ما رأيك في الحلوى؟
ـ كلا.. أريد نجمة
ـ حذاء جديد؟
ـ نجمة” ص 38.
لتضع نهاية النص الإمام في حيرة، تطلعا إلى مستوى أعلى من إدراكه، وإدراك من حوله، ليضع الطفل الصغير، مجتمعه / بيئته / تراثه، في مواجهة جديدة مع الأماني، ولتصنع النجمة بدلالتها مع النهاية المغايرة بتطلع الشيخ نحو السماء، هذه المفارقة كمحاولة للمغايرة أو الخروج عن النمط السائد.
ثمة تعانق آخر مع الأسطورة فيما بين نصي “المتاهة”، و”شوال التمر”؛ فاختفاء “الجدة العذراء” التي ابتلعها الكهف، بما يحمله من تراث وتاريخ، واستنبات للأسطورة من رحم لم يلد “!” في نص “المتاهة” قد يرمز إلى إشكالية القدرية، وضياع الحقيقة في كهف الحياة، حيث تتحول الجدة / التاريخ إلى حكاية شعبية تراثية تحوطها الدهشة، وتظل مثارا للعجب، وترتبط ارتباطا مغلوطا بالغيبيات، يطرحها النص من خلال مشهدية البداية ـ الدالة دائما ـ وهو مما يميز نصوص المجموعة في الغالب.
“.. ضباب الصباح يستلقي في الأودية.. وبعض السحب الشاردة تجوب السماء.
التقطت “رجعة” عصا رقيقة.. فتحت باب المراح.. فتدافع القطيع.. غض المدخل.. ثم تدفقت الشياه خلال مسارب الغابة” ص41.
هذا التدفق الخارج من أسره، يتلاقى مع الدلالة العكسية لاسم الجدة “رجعة التي لن ترجع” من خلال الاستهلال الممهد لهذا التحول: “أخذت تفكر …
ـ رجل.. امرأة.. كهف.
أحست بارتعاش لذيذ.. دخلت.. نادت: ـ سعد.. سعد..
مشت في ضوء المدخل. أحدثت خطواتها خشخشة. وانبعثت رائحة الزبل الجاف وذرق الطيور” ص 43.
هذا التورط المتدرج، مع الطبيعة ومفرداتها الدالة على التوحش، مع مغامرة التوغل في غير المأمون، وهذا الجو الكابوسي الذي يفرض تفاصيله على وعي هذه الشخصية الذي يتحول إلى لا وعي في مواجهته، هو في الوقت ذاته دال على العلاقة بين الإنسان وأحراش بيئته التي تمثل عنصرا ضديا له عبر مسارب حياته.
تبرز هنا أيضا أهمية الحوار المبتور الذي يشي بعدم التواصل أو الصدمة التي تلاقيها الشخصية في مواجهة المجهول، والتي تواصل النداء والبحث، بشيء من الفضفضة النفسية / البوح الذي يساعد على وصف تضاريس المكان الدالة على التورط في هذا المجهول: “أفاقت.. شعرت بالبرد.. تحسست الجدران الرطبة.. تلمست جسدها العاري.. واكتشفت كل شيء” ص 44
هذا الاجتراء على براءتها وجسدها الغض، قد تحول بفعل القوى الطبيعية إلى عنصر من عناصر بناء الأسطورة / الخرافة التي خرجت بدلا من الفتاة / الجدة / التاريخ من هذا الكهف المظلم، لتخلد الأسطورة وتفنى هي، وتدور الحكاية على الألسنة وتحتفظ بها الذاكرة الجمعية لوعي بيئتها، حيث يقول: “منذ ذلك اليوم وأطفال قريتنا لا ينامون حتى يسمعوا من جداتهم حكاية العذراء التي ابتلعها الكهف” ص 46.
فما بين البداية والنهاية تقف الحقيقة الغائبة عن هذا الوعي الجمعي، الذي لا يلتقط بذاكرته إلا أثر الغياب المغيب أحيانا للعقول..
بينما يحطم بطل نص “شوال التمر” أسطورته التي بناها وشيدها عروسا / صنما من تمر، توفر له من هدية، لعلها هدية الطبيعة الصحراوية / البيئة إليه، فتوحد مع ذاته ناظرا إلى كومة التمر التي نتجت عن تفريغه على الأرض، ليبتكر معها وبها هذه الفكرة / النبتة الأسطورية، لفنان حاول التعامل مع طبيعته المتاحة على نحو من تنفيث الرغبات من خلال حوار ذاتي:
“ثم شرع يشكل الكتلة.. يأخذ من الأسفل ويضع في الأطراف.. ثم يقطع من الأمام ويلصق في الخلف.. يدور حولها.. ينزع قطعة من الوسط ويجعلها في الأسفل.. وأخذ يدور ويدور حتى حلول المساء.. أشعل المصباح، وألقى نظرة فاحصة على مخلوقته” ص 57
ثم يتحول الحوار الذاتي إلى حوار مع من خلقت من تمر ـ في وعيه المرتحل بعيدا عن الوعي المادي ـ وهو نوع آخر من الحوار يطرحه النص ويستفيد منه، من خلال الأشكال المتعددة لتقنيات الحوار بالمجموعة، وربما أتى هنا ليعمق الفجوة بين الإنسان وما يجده بعدما يشتهيه، ويجد فيه ذاته، والذي ربما نحى منحى عبثيا ربما جعله من قبيل الهلوسة أو مظهرا من مظاهر فقد الاتزان: “ـ سئمت ثرثرتك.. من تظنين نفسك..؟ لم يتغير فيك شيء.. حتى الفراشة نسيت أنها كانت دودة..! حطمت شرنقتها.. وحلقت.. لكنك لم تتخلصي من عقدة الشوال..لا زلت مجرد شوال من التمر” ص61
لقد صنع عقيلة من شخصية النص، نموذجا حيا للإنسان حينما يتفاعل مع بيئته، ويتمادى ليصنع منها أسطورته، بما أوتي من مقومات، وبما يبرهن على القدرة على التكيف مع معطيات الواقع، مع إعطائه بطله المنفرد القدرة على الثورة في وجه هذه الأسطورة التي تحولت من واقع مادي جامد، بفعل الاحتياج إلى الدفء، إلى واقع حسي مفترض.
وبحيث يبقى للرموز الدالة تأثيرها تقنيا على الكتابة القصصية لهذا النص وغيره من النصوص التي يعالج فيها أمورا واقعية تصنع لها أصولها التراثية إطارا من الخرافة واللجوء إلى الدجل والتعاويذ كما في نص “المجنون” ، والعلاج بأشكال متعددة ربما استمدت بعضها من الطبيعة، واستفادت جيدا من عطاياها، وربما ذهبت بعيدا عنها لتأتي بالجانب الأسوأ من التأثير المضاد للطبيعة والتي تتباين في نصوص مثل “الوصفة الأخيرة”، و”دروب”، و”وصفة”، مع الاتكاء على لعبة المفارقة التي قد تبدو أحيانا فعلا متوقعا حدوثه، لكنها لا تني تتوقف عن إحداث الدهشة التي هي قرينة كل عمل قصصي موفق.
* إعادة تشكيل الواقع
لكن اللافت للنظر هو تكامل اتجاه المجموعة إلى البعد الميثولوجي، مع البعد الطبيعي والتطلع إلى محاولة صياغة الأمور/النصوص بصورة تبدو أكثر شاعرية تعانق ذلك الحس التشكيلي المتطلع إلى محاولة تغيير أو إعادة تشكيل الواقع المحيط بإبراز أجمل ما فيه، أو رسم صورة مغايرة قد تجمل الواقع وتظهر أبهى ما فيه من خلال عشق مبرح لتفاصيل بيئة عزيزة على الوجدان. كما تساهم في كشف سمة من سمات التجزر التي يعاني منها إنسان هذه البيئة/هذا العالم، ومعاناته من جراء تجزره وانعزاله، وربما توحده المريض مع ذاته تارة، وتوحده المبدع مع بيئته تارة أخرى..
فتبدو في نص “المرآة” معاناة المرأة العجوز في محاولة إعادة البهجة إلى تقاسيم وجهها، في موازاة مع هذه الإشكالية التي تحاول فيها إعادة صياغة واقعها، من خلال مرآة، بعدما فقدت ميزة النظر إلى ذاتها في مرآة وجه زوجها الذي يشير إليه النص في سطوره الأولى على أنه “يصر على الاحتفاظ بتكشيرته الأبدية” ص143، فيكمل في ص 144: “تأملت وجهها طويلا.. ثم أشاحت.. وأنحت باللائمة على المرآة التي لم تعد تظهر الوجوه كما ينبغي.. !”.
ليشير النص إلى عدم التواصل مع أي من المرآة والزوج، دلالة على انقطاع الوصل بأسباب البهجة والحياة ، لكنها لا تني تتوقف عن محاولات تغيير هذا الوجه وإعادة الحياة إليه، بمحاولة تشكيل واقع جديد، قد لا يختلف كثيرا عن واقعها الآني!: “حاولت أن تعدل من ربطة المحرمة.. وحرصت على جبينها.. ليخفي التجاعيد.
ـ أنا لم أعد “تكاميل”.. لقد صدق “الداهش” حين قال بأنني قد أصبحت “تناقيص” ” ص145
ليشكل هنا الحوار الذاتي / المونولوج الداخلي ملمحا متواصلا في متن النص ـ كما في أغلب نصوص المجموعة ـ ينم عن عدم التواصل الذي تعاني منه الشخصية المحورية المنفردة بالنص، والمتفردة بكونها تعاني التوحد كمرض دال على تجزرها رغم وجودها في محيط عائلي.. كما يشكل الاسم ملمحا آخر دالا على عدم التواصل الشخصي والجسماني للمرأة مع اسمها، مع تأكيدها من خلال هذا الحوار أيضا: ” ـ لست أدري لماذا لا يصنعون مرايا تحتفظ بالوجوه شابة فتية ؟ ” ص145
ليختتم النص بنهاية دالة على الفشل في إعادة تشكيل هذا الواقع، ولو على المستوى التوهمي أو المصطنع ، بعد فعل استعارتها لمرآة جارتها الصقيلة: “اجتاحها إحساس بالفرح المشوب بالتشفي.. وهي تسمع صوت الارتطام والتكسر.. انحنت.. وأخذت تتأمل وجهها المبعثر في الشظايا” ص147
ربما تماهت هنا النهاية مع نهاية نص “شوال التمر” الذي ربما فشل صاحبه في محاولة أخرى من محاولات إعادة تشكيل الواقع، وإن كان من خلال أسطرته لكائن صنعه بيده، ثم انقلب عليه ثائرا وكافرا به..
وربما تماست فكرة النص أيضا مع نص “حكاية مدينة” من حيث تجسيد حلم الشخصية الباحثة عن وطن بديل / مدينة فاضلة، من خلال محاولة بناء مدينة من الرمال على شاطئ البحر، ولكن هيهات تأتي الرياح والأمواج بما لا تشتهي “المدن” أو صانعوها، لتشكل نهاية النص البارعة دلالة هامة على مدى استحالة تحقيق الحلم الواهي بتشكيل أكثر وهنا وضعفا:
“.. ارتفع المد.. أخذت الأمواج تطال أطراف المدينة.. بل بدأت تبتلع أحياء بكاملها.
وقف فوق الأنقاض.. أخذ يتطلع إلى البحر.. مد سبابته.. واندمج يعد الأمواج ” ص152
بينما يختلف الحال لدى شخصية زينب في نص “المفرش” والتي تفلح في تشكيل واقع خاص بها، وإن كان من خلال الأحلام / حلم اليقظة أو الإبداع الحلمي الذي انسال عبر يديها على سطح مفرش، حيث جنح بها النص لتبحر في مخيلتها تستشف منها أحلامها البسيطة المترعة بالأمل، وتنجز بها ما لم تحققه لها الأيام والليالي: “وبين أنامل زينب أخذت الأشياء تتشكل.. البيت.. الشجرة.. العصفوران.. العش.. شمس ذهبية تتربع فوق حافة الأفق.. أضواء.. ورود.. كانت “زينب” هذه المرة تصنع الآفاق” ص 162
ومع انسياب هذه الأنامل على المفرش / أرض الواقع الجديد، المتخيلة الطوباوية.. ينساب النص، ليحقق المعادلة الصعبة التي يرنو إليها الخيال العاشق المتفتق، ليكمل الصورة البهية: “صعدت الشمس.. تحركت الظلال.. اهتزت الأغصان.. اقترب العصفوران من بعضهما.. انفتحت النوافذ.. تسلل شعاع الشمس إلى غرف البيت…..”
إلى أن يكتمل الحلم الطوباوي ، بالتحامه بأرض الواقع / الامتداد: ” … وتحت الشجرة ظهر طفل يحبو” ص163.
كما يمثل نص “وحشة” تلك الرغبة الأكيدة التي لا تغادر نفس الرجل الضرير الذي يستحث الأشياء والبشر المحيطين إلى التواصل معه، ومحاولة إعادة الأشياء إلى أشكالها المعتادة لديه قبل إصابته بالعمى، والتي يرجعها النص إلى سبب تاريخي يتعانق مع جغرافيا المكان ـ مرة أخرى ـ وهو الصحراء، من خلال طرحه للأسئلة الدالة على عمق صلته بالحياة، ولكن دون جدوى وسط سخريات الآخرين، لتأتي النهاية دالة على تمسكه بهذا الأمل / التواصل مع الحياة من خلال محاولة استرجاعه للكون: “ومضى.. وهو يسترجع صورة للكون.. حتى غيبه الليل.. وظل صوت العصا المتحسسة يسمع واهنا في الظلام …” ص 168.
تختتم المجموعة ختاما مشهديا دالا من خلال نص ” انبعاث ” أو اللوحة التشكيلية الطبيعية الباهرة التي تتعانق فيها كل دلالات الحياة، وحلمها الطوباوي المتمثل في تآلف كل الكائنات والظواهر إبراز أجمل ما في الكون / الطبيعة / الأرض / الوطن المرجو، تحمل حلم المبدع / الكاتب / ابن بيئته بأن تتفتح دنياه / أرض منبته ومنشئه كما تتفتق الأرض عن باطنها الواعد بالخير.. “تندفع الغيوم.. تحجب الشمس.. تنسكب.. تتغلغل المياه بين خطوط الحرث.. يربو.. يتشقق.. تتفتح الحبة في الأحشاء.. تنتأ البراعم.. تبرز.. تنبعث.. خضراء.. طرية.. تكبر.. تستغلظ.. تستوي على سوقها.. تطلع السنابل رؤوسها…”. ص 172.
_________________
* كاتب مصري، الإسكندرية