قصيدة صغيرة الحجم، عدد أبياتها قليل، ولكن قليلها لا يقال له قليل. سامقة المعاني رائعة النظم، عنوانها يحمل معاني العزة والإباء، الشموخ والكبرياء، الثبات والعطاء، الجلال والجمال، الروعة والبهاء.
العنوان: الرجولة، والقصيدة للشاعر الكبير، الأديب الليبي المبدع، أستاذنا الفاضل: محمد المزوغي.
وهو شاعر غني عن التعريف، له بصمة إبداعية مميزة، يجمع بين عمق المعاني ورقتها، وأناقة الحرف وتألقه. وقصيدته هذه هي إحدى قصائد ديوانه: لا وقت للكره. وهو ديوان يتكون من خمسة عشرة قصيدة، كل قصيدة منها لوحة غناء غاية في الإبداع والجمال، وإن شاء الله قريبا سأصحبكم في جولة ماتعة مع ديوانه الرائع الذي أشرت إليه.
أما قصيدته هذه (رجولة)، فهي ملحمة مصغرة ولوحة بديعة يتناثر في جنباتها الذوق الرفيع والحس المرهف والاسلوب الساحر. في كل بيت تتكاثف المعاني وتمتد فضاءات الإبداع وكأن كل بيت ديوان من الجمال والروعة والألق.
يستفتح شاعرنا قصيدته بهذا البيت:
تأبى الرجولة إلا أن تسير على
درب من التعب الموصول بالتعب.
فيقودك جمال البيت إلى قول أبي تمام
بصرت بالراحة الكبرى فلم ترها
تنال إلا على جسر من التعب.
وها هو يحلق في وصف الرجولة الإباء فإذا بأربابها الرجال الجبال والقمم الشماء:
لا تنتي ورياح الشر عاصفة ,,, ولا تلين لأموال ولا رتب.
وذلك لأن للرجولة تواصلها مع العلو فتأبى إلا أن تحلق، ويحلق شاعرنا أيضا بحرفه ليصهرنا مع ألقه البديع فيقول:
لأنها الهبة الأغلى إذا اظفرت
روح بها ذهبت بالفضل والحسب.
وأحسب أن للروح سموها وامتدادها وفضاءاتها المتسعة. ونعم التشبيه الرقراق الذي ينقلك إلى مريم البتول ويهبك مرافقة النخلة الباسقة في هذا التشبيه الأنيق للرجولة:
كأنها النخل في سفر الشموخ وفي
كتاب مريم عن جذع وعن رطب.
وإذا بك تستمتع بحلاوة الرطب فتعيد البيت مرات ومرات، وما تكاد تجاوزه إلا إلى بيت يطرب سمعك بخرير الماء لنهر عذب رقراق، فتقف تشهد هذه اللوحة الساحرة وأنت تقول صدقت شاعرنا، فهل الرجولة إلا حياة للحياة. استمع إلى أديبنا المميز وهو يقول:
أو أنها نهر تخضر الحياة على
ضفافه دون من منه أو طلب.
ويحلق بنا شاعرنا في سمو السماء وعلو السحاب قائلا:
وقد تشابه معنى لا حدود له
لا يقبل اللفظ مالم يعز للسحب.
وهل الرجولة إلا هذا التحليق وهاتيك المجاوزة للجوزاء. وفي مقابل هؤلاء المحلقين أصحاب الهمم العالية والرجولة الحقة، هناك فئة من الأقزام تضخموا وانتفخوا، صالوا وجالوا بالباطل وللباطل، لاهم لهم إلا محاربة الرجال، لأن قيم الرجولة تزعجهم وتفضح مقابحهم، وشاعرنا يرى أن صفحاتهم ستطوى وراياتهم ستنكس، وأثارهم ستمحى فيقول:
سينطوي ذكر من مرت أظافرهم
بجلدنا ورموا بالقهر كل أبي
ستطوى كلمة جامعة تختصر انهزام الباطل وأهله ولو بعد حين، تحلق بك الكلمات وتجعلك تستحضر قصيدة محمود درويش وافتتاحيتها المميزة:
أيها المارون بين الكلمات العابرة
احملوا أسماءكم وانصرفوا
زراع الفتنة هؤلاء ومضرموا النيران، وضع لهم شاعرنا تشبيها يليق بهم له صلة بحمالة الحطب وزوجها أبي لهب، فيقول في حقهم:
كم جمعوا حطبا كي يحرقوا
مدنا كأن أمهم حمالة الحطب
وكلهم لهب-يرتاع إن ذكروا
لهول ما فعلوا- منهم أبولهب
ويال التشبيه وكفى. ويرحل العابرون ويظل الأحياء الأحياء أصحاب الرجولة الحقة، يفوح شذاهم وتزهر آثارهم ياسمينا ورياحينا. يقول مبدعنا في أخر قصيدته:
والقابضون على عطر الرجولة إن
غابت ملامحهم فالعطر لم يغب
باقون كالشوق في قلب الموله أو
كالخبز في حلم الطاوي على سغب.