(غرفةُ رجلٍ مبعثرةٍ) هِيَ المجموعَةُ القَصَصِيَّةُ البِكْرُ للقاصَّةِ/الشَّاعرَةِ غزالةَ الحريزي، ضَامَّةً اثنتينِ وعشرينَ قصَّةً قَصيرَةً، جَاعِلَةً لها عنوانًا فَرْعِيًّا (نصوصٌ قصصيَّةٌ)، لم تشأْ أن تُسَمِّيَها قِصَصًا، لعلَّها كانت تهابُ التسميَّةَ الصَّريحَةَ لنُصُوصِها الإبداعيَّةِ تلكَ خَوفًا من أَلَّا تكونَ قِصَصًا، فأرَادَتْهَا مَحْضَ نُصَوصٍ تَتَقاطعُ مَعَ القَصِ، تَتَشَاطَأَ معَ السَّردِ، تَتَوَاطَأُ مَعَ الحكيِ العَفْوِيِّ، لكنَّها خَانَتْ فَلَانَتْ فَكَانَتْ قِصَصًا نَاضِجَةً طَازَجَةً لا شِيَّةَ فيها.
ومنذُ عتبتِها الأولى، عنوانِها اللافتِ المثيرِ، تُغرِينَا القَاصَّةُ بمتعَةٍ مُمْكِنَةٍ، وابتهَاجٍ مُبينٍ، وقِرَاءَةٍ تَنفحُ الأعماقَ طربًا وانتشاءً..
فِي قِصَصِ غزالةَ الحريزي يَتَعَاشَقُ السَّرِدِيُّ والشِّعْرِيُّ عَبرَ ثنائيَّةٍ حَكْيٍ بَاذِخَةٍ؛ فَالشَّاعِرَةُ المزمِنَةُ تخطَّفتْهَا فَضَاءَاتُ السَّردِ العَلِيَّةُ، لتهويَ بها إلى فراديسِ القَصِّ السَّاحِرَةُ الآسِرَةِ، خَائِضَةً في تجربَةٍ سرديَّةٍ مائزَةٍ، على متنِ لغةٍ فَارِهَةٍ تَغْمُدُ جَنَاحَيْهَا في مَاءِ الشِّعْرِ الذَّهبيِّ، مُقترِحَةً دَهْشَةً وَإِثَارَةً وَإِمْتَاعًا، سَاكِبًةً فِتنَتَهَا في الأَعْمَاقِ كُؤُوسَ سَردٍ مَاتِعٍ، تَعْمَدُ إلى ذلكِ بَدءًا من شاعريَّةِ بعضِ عناوينِ قِصَصِها التي تُوَارِبُ ألفَ احتمالِ على التَّأْوِيلِ، عَتَبَاتٌ مِستَفِزَّةٌ، تَقطرُ شاعريَّةً: (إزارٌ للموتِ، غرفةٌ للرِّيح، ورطَةُ الاشتعالِ، الأبوابُ المُوَارَبَةُ، طفلَةٌ للجنونِ أمْ للعشقِ، سيرَةُ غيابٍ، فوضَى السَّهَرِ، غرفَةُ رَجُلٍ مُبَعْثَرَةٌ، أحلامٌ صدئِةٌ، لا تعني، الرَّسْمُ العَارِي، انتكاسَةٌ على مداراتِ زُحَلٍ، نشوَةُ المَاءِ).
فَبهذهِ العتباتِ المثيرةِ تُوَارِبُ قُلُوبَنَا على لِذاذاتِ التَّلَقِّي، وَمُتَعِ القِرَاءَةِ، وَبَهَجَاتِ الاكِتَشِافِ، غَيرَ أَنَّ هذهِ الشَّاعريَّةَ العَالِيَةَ لا تَتَحَقَّقُ في بقيَّةِ قصصِهَا؛ إذِ اكتسَتْ عناوينَ تقليديَّةً تطغى عليها المباشرَةُ: (الفَجرُ والمدينةُ، بَقايَا امرأةٍ، عصًا خشبيَّةٌ، انجرافٌ، سيرَةُ طفولَةٍ، اِنسيابٌ، حوافُّ، سالم وسالي). وإن كانت مَضَامِينَ القِصَصِ لا تَتَخَلَّى عن دهشَةِ السَّردِ، ولا تَتَجَافَى عنِ الإِمتاعِ، فَهي قِصَصٌ مُبْتَلَّةٌ بِالشِّعْرِ، مَتَبَّلَةٌ بمجَازَاتِ اللُّغَةِ البَاذِخَةِ، فَكثيرٌ من تعابيرِها تقطرُ شِعرًا، يَتَوَاشَجُ فيها السَّردِيُّ مَعَ الشِّعْرِيِّ في تآلفٍ بديعٍ، عبرَ صِيَاغَةٍ بَارِعَةٍ، وتداعٍ شائقٍ، وَانِسِيَابٍ عَفْوِيٍّ؛ فيمضيَانِ في عِنَاقٍ حَمِيمٍ نحوَ مَقَاصِدِ القَصِّ الفاتنِ: الإبداعِ والإمتاعِ والإقناعِ.
وقد وِفِّقَتِ القَاصَّةُ في خَلقِ تَوَازُنٍ مُحْكَمٍ بَينَها، فلم يَفسُدِ القَصُّ اَنجذَابًا تامًّا نحوَ الشِّعْرِ، ولم يَتَوَاطَأْ الشِّعرِيُّ مَعَ السَّرْدِ تخلِّيًا عَنِ الشِّعْرِيَّةِ الوَارِفَةِ، ذَلكَ لأَنَّها نجَحَتْ في إغرائِنَا بِالقراءَةِ، بالتهامِ قَصِصِهَا الْمُطَعَّمَةِ بِدَهَشَةِ الشِّعِرِ، بِدَسِّ عَسِلِهِ في صُحُونِ سَرْدِهَا الفخيمِ.
والمرَّةُ الوحيدَةُ التي غَفَلَتْ فيها عنِ البَرْزَخِيَّةِ القَائمَةِ بينَ الشِّعْرِيِّ وَالسَّرْدِيِّ ليتمَاهَى الأَوَّلُ عَبرَ لُغَتِهِ الطَّاغِيَةِ فَيَعْلُو عَلَى لُغَةِ الحَكِي، أو فَلْنَقُلْ إِنَّهَا سَهَتْ عَنِ السَّرْدِ فَجَنَحَ إلى الشِّعْرِ بَمَجَازَاتِهِ وَأَخْيِلَتِهِ، فخَفَتَتْ صَوتُ القَصَّةِ مُسْلِمًا بريقَهُ لِسَطْوَةِ الشِّعْرِ، كَما في قِصَّةِ (فوضى الحواس).
القاصَّةُ غزالَةُ الحريزي لا تَكْتُبُ قِصَصَها لمحضِ مِتْعَةِ السَّرْدِ المجرَّدِ، أَو لأَجْلِ مَجْدِ الكِتَابَةِ الْمُبْتَغَى فحَسْبُ؛ إِنَّهَا تقصدُ إرسالَ رسائلَ ما، فحينًا تَتَّكِئُ على الرَّمزِ لِتَتَخَفَّى في ثنايَا قِصَصِهَا مَقَاصِدُ بِعينِهَا، كما في قِصَّةِ (الفجرُ والمدينَةُ)، وحينًا تتمنسأُ على النَّهايَاتِ المعلَّقَةِ، تِلكَم التي تُوَارِبُ قِصَصَهَا على احتَمالاتٍ كثيرةٍ تدعو المتلقِّي إلى مَلِئِهَا بتوقُّعَاتِهِ وانتقاءَاتِهِ، فيتحوَّلُ من مجرَّدِ مُتَلَقٍ سَلبِيٍّ إلى مُشَارِكٍ في تَشْكِيلِ تفَاصيلِ القِصَّةِ، ورَسْمِ مَسَارِاتِها وأبعادِهَا، وترسيمِ تخومِهَا.
والحريزي تستدعي الموروثَ العربيَّ بِغِنَاهُ وثرائِهِ، كما فعلَتْ في قِصَّةِ (بقايا امرأةٍ) حينَ استدَعَتْ قِصَّةَ الشَّاعِرِ العَربيِّ دِيكِ الجِنِّ الدِّمَشْقِيِّ(عبدِ السَّلامِ بنِ رَغَبَان) وظَّفتْها لمصلَحةِ قصَّتِهِ توظيفًا جيِّدًا.
في مجموعةِ (غرفة رَجُلٍ مبعثَرة)، لا تَتَوَقَّفُ ذَاكِرَةُ الطِّفْلَةِ عن مُرَاوَدَةِ مُخَيِّلَةِ القَاصَّةِ، وَالوسَوسَةِ لَهَا بِحَمِيميَّاتِ طُفُولَتِها المكْتَظَّةِ بكثيرٍ منَ الأَحَدَاثِ الفَاتِنَةِ، وَالتَّفاصِيلِ المدهشَةِ، والالتقاطاتِ المثيرَةِ، فهيَ لا تَكَادُ تَبْرَحُ مَلَاعِبَ الطُّفَولَةِ، بِلهوِهَا البَرِيءِ، بِلَعِبِها وَشَغَبِها وَزَغَبِها، وَرَغَبِهَا وَرَهَبِهَا، وَشَيطاناتها، وحماقاتِها وارتكابَاتِها وانفلاتاتِهَا؛ إذ تُصَاحِبُهَا وَهْيَ تُؤَثِّثُ الأَمْكِنَةَ، وَهيَ تحرِّكُ شُخُوصَ قِصَصَهَا، وَهْيَ تَسْتَذْكِرُ كَثيرًا منَ التَّفَاصِيلِ الشَّائقَةِ، وَلا عَيْبَ في هذا، فالطُّفولَة مُكتَنزٌ ثمينٌ لا ينفدُ، ومعينٌ إبداعيٌّ لا يَنْضَبُ لَدَى أَيِّ مُبْدِعٍ.
منَ القصصِ المدهَشَةِ قِصَّةُ (غرفَةُ رجلٍ مبعثرة)، ولو أنَّ القاصَّةَ تمادَتْ قليلًا في شَاعريِّتِها فَأِجرَتْ تغييرًا يسيرًا على عنوانِ قصَّتِهَا (غرفة رجلٍ مبعثرة) بحذفِ تاءِ التَّأنيثِ من كلمَةِ (مبعثرة) لِتَنْسُبَ البَعْثرَةَ للرَّجَلِ نفسِهِ فَتَكْسَبَ عنوانًا مُرَاوِغًا سَامِقًا وَمُسْتَفِزًّا، فَـالرَّجُلُ المبَعثرَةُ غُرفتُهُ هوَ ذاتُهُ صاحِبُ الـ (غرفَةِ رجلٍ مبعثرة).
خِتَامًا
من خَلالِ تجربَتِها البِكرِ، محاولَتِهَا القَصَصِيَّةِ الأُولَى هذه – وَإِنْ جَاءَت مُتَأَخِّرَةً نَوعًا مَا – يمكنُنَا القَوْلُ إِنَّنَا اِكْتَسَبْنَا قَاصَّةً مُجِيدَةً، فَضْلًا عَن إِنَّها مُقْتَرِفَةٌ جيِّدَةٌ لِلقَصِيدِ الآسِرِ، قَاصَّةً/شَاعِرَةً تزدَحِمُ عَلى كَفِّهَا الذَّارِفَةِ إِبْدَاعًا عصافيرُ القَصَائِدِ الْمُذْهِلَةِ، وَتَتَدَعَى على رُوحِهَا الرَّاعشَةِ قلقًا مُنْتِجًا، حَمَائمُ القَصِّ الهَادِلَةُ بِالحَكِي الشَّجِيِّ السَّخِيِّ.
اجدابيا/ 15/ 5/2022م.