ارتبط الليبيون بالرقم ثلاتة على نحو لافت, ولعل اسم عاصمتهم اللاتيني “تريبولس” او ” طرابلس” العلامة الأهم والأبرز لذلك التاريخ الثلاتي الابعاد, فهو يعني “المدن الثلاتة” وقد اطلقه الاوروبيون على ” لبدة وصبراتة واويا” , ليشير بعد ذلك لاقليم ” التريبوليتانيا” او الأقليم الطرابلسي او الأقليم الثلاتي ,ليكون في العصر الحديث الأسم المناسب لعاصمة لأقاليم الثلاتة “فزان ويرقة وطرابلس”.
الليبيون ومنذ بدايات عصرهم الحجري الحديث ” الذي لم يغادروه اسوة باخوتهم العرب والمسلمين حتى الآن”, شكلوا ومنذ الآف السنين ايقونتهم المثلتة في “حويته وخميسة وقرين ” وهي علامات تلخص ثقافات ليبية سادت منذ العصر الحجري الحديث وحتى الآن ,فالحويتة “تصغير للحوتة او السمكة” مثلت ايقونة لسكان الساحل المنفتحين على البحر وحضارات شواطيئه الاخرى وكانت ترمز للخلود وترسم على قبور الموتى وفي ذلك يبرز الأثر الروماني الحضاري ,اما “الخميسة” فهي ايقونة صحراوية خالصة وقد قدسها “الجرمنت ” سكان مملكة “الترانزت” او تجارة العبور في الجنوب الليبي حيث لا تزال عاصمتهم “جرمة” واهراماتهم العشرون باقية الى الآن , وقد كان الجرمنت ينصبون “خميسة” من حجر كشواهد لقبور موتاهم قبل ان يبنوا الآهرامات كشواهد كبيرة لتلك القبور و لتخليد اولئك الموتى.
اما “القرين” وهي تصغير “للقرن” فقد كان ايقونة لثقافة سكان تخوم الصحراء او “الوسط” وهي مناطق شاسعة تمتد بين البحر والصحراء جغرافيا وبين الحويتة والخميسة ثقافيا, وقد تشكلت هذه الثقافة كاحزمة ثقافية للصحراء ضد البحر وللبحر ضد الصحراء ,وظلت وترا مشدودا بينهما, تدافع عن البحر ضد الصحراء احيانا واخرى ضد البحر عن الصحراء, كانت تمتد في الوسط من غدامس غربا وحتى سيوة شرقا , مرورا بزويلة وحتى بابها بالقاهرة وتعتبر يني وليد متحف فنها الذي تتناثر اثاره عبر شعابها و وديانها الى جانب اوجله وسيوة.
“القرين ” هو ايقونة المعبود الليبي قرزيل وثوره المتوتر وهو ايضا ايقونة المعبود الليبي “امون” وكبشه الوادع المطمئن .
اثار قرزيل تظهر في “قرزة” ببني وليد , وظل سكان بني وليد يفاخرون بترويض الثيران وترقيصها حتى وقت قريب , ويسمون احيانا ” رقاصة الثور” وهو ميراث من طقوس الاحتفاء والتقديس لقرزيل وثيرانه المتوترة في العهد القديم .
تماثيل وايقونات قرزيل وتيرانه يحتفظ متحف بني وليد ببعضها “ان لم تدمر او تسرق في السنوات الأخيرة”، اما امون فتظهر معابده بترهونة وزاوية المحجوب بمصراته واوجلة ثم سيوة .
اذا كان ثالوت المدن “الطرابلس” قد جاء من وراء البحر فأن ثالوت “الحويتة والخميسة والقرين” كان محليا خالصا ولذا لا زال مفعول ايقوناته مؤثرا في الوجدان الليبي وفي الأوهام الليبية ايضا منذ نهايات العصر المطير وحتى الآن, فلازالت الليبيات يعلقن تلك الايقونات في رقابهن وفي بيوتهن طردا للحسد وطلبا للحظ والحماية.
كان الليبيون ورغم شتاتهم الجغرافي يوحدون ذلك الثالوت الخالد في واحد, فطرابلس ورغم دلالتها الثلاتية, ظلت رمزا لوحدتهم , وظلت بيوتهم واعناق نسائهم واطفالهم تحضن ” الخميسة والحويته والقرين” ايقونات الحظ وطرد الحسد وطلب الحماية والتحصين معا , فمن النادر الا تجدها متجاورة ومشدودة بخيط, ومعلقة ككيان رمزي واحد .
في العهد القره مانلي ,اخذ هذا التنوع شكله الحديث الموحد , صار خيط تلك الايقونات الثلاتية الأبعاد مشروع كيان على الأرض, مشروع ارض وشعب وحكومة تحاول كسب الأعتراف الشكلي بها فموضوعيا كانت بالفعل موجودة
لم تنله بالطبع رغم مغامرات يوسف القره مانلي , ورغم اشعار سيدي قنانة فلقد انقطع الخيط اللاظم لتلك الأيقونات ,تحت ضربات اساطيل اوروبا ومؤامرات باب تركيا العالي وشهوة وصراع القره مانللين الاشقاء على السلطة , لتظل ملظومة بخيط التبعية حتى خمسينات القرن العشرين.
مشروع الاستقلال اقر الثالوت واعاد لظمه في خيط واحد اسماه العالم الحديث ليبيا واعتقدنا ان الخيط متين ,بل ان الأيقونات انصهرت في بعضها وماعاد بالامكان تمييزها, ولكننا الآن نرى الأيقونات متناترة ,وعشرات الخيوط تمد للظمها على نحو لا احد يعرف كيف يكون , هل عواصم ثلات ام “طرابلس” ؟ هل اقاليم ثلات ام ليبيا؟ هل “حويتة” تسبح احلامها بعيدا في البحر و”قرين” يتحصن متوجسا من البحر والصحراء و”خميسة” تنزوي في متاهات الرمل ؟
نحن الثلاتة خبرنا هذا التشظي والتناتر,واخذ تشظينا اشكالا عدة , انتجت دائما حروبا واصطفافات قبلية وغزوات باتجاه الوسط والجنوب لأخضاعه لمركز بحري ظل يعمل جابي ظرائب للمحتل , وظللنا رغم كل الكبوات ننهض ونعيد لظم ايقونات وحدتنا بخيط الوطن الواحد .
الليبيون يتشظون اليوم مدنا منتصرة واخرى مهزومة, فجرا وكرامة, مهجرين ونازحين ومتربصين متوترين وجميعهم يعانون هذا التشظي , فأي خيط يمكن ان يعيد لظم ايقونات ليبيا المتناحرة؟.