صلاح الدين المرجيني
تلك اللحظات الحرجة بين الولادة والموت لحظات مربكة ومرعبة، هي كلمع البرق نسعى للتمتع بالنظر إليها وغالبا ما تخطف أبصارنا قبيل لمح جمالها. كما أن هذا اللمع يسعى بدوره إلى أن يخطف نور أبصارنا ثمنًا للمتعة.
ولا يأس مع ذلك فالطمع في تلك اللحظات يجعل منا حفارين كمن ينقب عن كنز مفقود لا ضمان لوجوده ولكن الحفار يستمر وكلما زادت الحفرة عمقاً كلما زاد هو شغفاً بالعمل، فهو لا يشعر بالتعب حينها بل يرى سراب الذهب يرسم حياته وحيوات أبنائه يحفر وهو يُقَسِمُ الكنز تقسيماً دقيقا إلى أن يصرف كل قطعة ذهب ويستنفذ كنزه قبل أن يراه.
قد تكون هذه اللحظات عند البعض عكس ذلك ولكنها حتماً على قدر ما هي جميلة إلا أنها قطار سريع لبوابة النهاية. ما يلبث المرء أن يخطوا حتى يجد نفسه على باب القبر.
ولكننا نمدد هذه اللحظات متمتعين بعذابها فبعضها له عذاب بطعم فريد، لحظات على قدر ما هي مالحة إلا أننا ننتشي بملحها كما ننتشي بعرق أجسادنا أثناء العناق ملح الحب طعمه غير ، و وجع المضجع وجع مريح.
اشتقت لك يا عزيزي، اشتقت لك كثيراً قبل حتى أن أعانقك، اشتقت لك وأحببتك قبل حتى أن أعرف أسمك يا حبيبي، لماذا لم تمنحني الفرصة لوداعك لماذا لم تعانقني قبل أن تغادر بين أيدي سيدنا المسيح، أسأل الرب أن يضمك بكل رحب بين ذراعيه يا عزيزي، أعلم أنك أحببتني أعلم أيضاً
أنك وددت لو أنه كان بإمكانك أن تعانقني ليلتها ولكن الموج منعك، شعرت بذلك الحب الدافئ كان ينبعث من صدرك ليدفئ صدري في عتمت الليل وبرد البحر، رأيت حياتي وحياتك في عيناك ليلتها قرأت رسائلك لي كلها، كانت تتطاير وتنبعث سريعة كطيور السنونو من عيناك وتنير دربها وسط الجموع من بني بشرتنا السوداء المتكدسين على ذلك القارب اللعين في تلك الرحلة اللعينة نحو تلك الأوروبا الشمطاء، ليثها لم تكن ويا ليثني لم أكن لكي لا يكن هذا الشعور الكبريتي الذي عكر كل شيء في حياتي حتى أنه أفسد الأكسجين في مجرى تنفسي و أكسد خلايا جسدي العفن بطبعه منذ ولادتي، كم تمنيت أن ألحق بك عزيزي، كم كنت جبانة ليلتها، ف خوفي من الموت كان أكبر، روحي تشبثي بالحياة كانا أقوى من أن ألحق بك أرجوا أن تقبل أسفي فلترقد روحك بسلام يا موزاس سميتك موزاس أرجوا أن يعجبك الاسم، كن في انتظاري أعدك أننا سنلتقي يوماً.
حبيبتك الجبانة
هذا ما كتبته المهاجرة الأفريقية “وازا” على ورقة واحتفظت بها راغبة في أن تحتفظ بها إلى مماتها حتى تعطيها إلى ذلك الأسمر الذي أحبته على مثن القارب المطاطي الذي انطلق بهم من شواطئ ليبيا جنوب الجنة ليقللهم إلى شواطئ جهنم إيطاليا كما أسمتها. والذي التهمه موج المتوسط ليلة الثاني والعشرين من آذار لهذا العام.
رأيته في الشاحنة أثناء انتقالنا إلى الشاطئ من المزرعة التي بقينا فيها حوالي ثلاثة أيام، لم يكن معنا في نفس المكان أنا متأكدة من ذلك فأنا لم أراه إطلاقاً أيام وجودي في المزرعة، أعتقد أنه كان في أحد المزارع الأخرى، تبادلنا النظرات ولكننا لم نستطع التحدث، خوفاً من أن نتعرض للضرب أو الشتيمة من قبل المهربين المرافقين لنا لتأمين وصولنا إلى الشاطئ، تمنيت أن نجلس بالقرب من بعضنا البعض في القارب ولكن هذا ما لم يحدث، فقد وضعوا النساء أسفل القارب على الخشب والرجال فالأعلى، لم تمر دقائق حتى اكتشفت أن حبيبي هو ملاح الرحلة وأنه برفقة صديقته وهذا ما جعله فالحقيقة يمتنع عن الكلام معي، حيث كانت صديقته تتشبث بساقيه وكأنها قطة متسكعة .
انطلق بنا وكان الطقس ليلتها بارداً جداً وقاربنا يكسر الموج بصعوبة ويسير ببطيء شديد لكثرة الحمولة عليه، صرخ أحد المهاجرين كان يحمل قارورة ماء بين ذراعيه وكيس خبز مخاطباً الربان (علينا أن نعود إلى الشاطئ فإن لم نعد لن يصل قاربنا ولن يصمد أمام هذه الأمواج العاتية حتى أن المحرك ضعيف فهو بالكاد يتحرك بالسرعة المطلوبة لكثرة البشر هنا، هيا عد بنا وإلا متنا جميعاً).
لم يبالي الربان وكأنه لم يسمع واستمر في مصارعة البحر، صدقت كلام المهاجر صاحب الخبز وقارورة الماء وشعرت بالخوف حينها فالموت تنادي صاحبها، اتضح لي بعدها أن ذلك المهاجر كان برفقة زوجته الحامل وكانت تتقيئ قيء أصفر كريه الرائحة كما أنه لم يتوقف عن الصراخ في وجه الربان ويأمره بالعودة وإن زوجته توشك على الموت وقد أصبنا جميعا بدوار فظيع ملئ بعضنا القارب قيئاً تضطرك رائحته الكريهة للقفز فالماء لا من الخوف الذي أصابنا بل من تلك الرائحة النتنة التي اكتسحت الأكسجين في قلب البحر، ينطلق الربان واثقاً نحو ظلامٍ سديم وبرد مالح ولم يأبه لضعف المحرك ولا لهشاشة القارب وحمولته، وبين كل هذا الصراخ والعراك القائم بين قاربنا وموج البحر لم نكن أنا وحبيبي موجودين لا على القارب فوق البحر ولا على كوكب الأرض أساساً كنا نطير في عوالم خارجة عن الطبيعة بأنظارنا أجسادنا باردة في ليل عاثم وقارب عائم وأرواحنا تعانق جنان العشق فقط بنظرات، نظرات اخترقت القلوب اختراق الرصاص للأجساد واستقرت في الوجدان، حتى صحوت من حلمي القائم على صوت خرخرة المحرك وصياح المهاجرين انطفئ المحرك
انطفئ المحرك وانقطع سبيلنا في وسط الماء الأسود، في قلب الليل الأسود انتهى حلم كان أبيض لأناس سود هاربين من قارة سوداء وحياة أسود من السواد إلى مصير مجهول اتضح أنه أسود من سواد الحياة التي عشناها منذ ولادتنا.
وهنا عدت إلى المستقبل. عدت إلى ذلك المستقبل الذي لطالما حلمت به وحملته بين أجفاني منذ طفولتي المستقبل الذي زرته مئات المرات وأنا على فراشي في “نيجيريا”، عدت و اكتشفت أن مستقبلي مكربن ولا جدوى من الهروب من الماضي القاني، ولكنني لم أستلم وقررت ولادة مستقبل آخر، حاول الربان الاتصال بالمهرب فأجابه، قال له أن المحرك قد هلك وطلب منه المساعدة أن يأتي ويجرنا إلى الشاطئ وإلا أننا سوف نغرق ونموت جميعاً، وافق المهرب وقال له أنه سوف يأتي لنجدتنا ويجرنا، ولكن لم يفعل ولم يجب على الهاتف ثانية وبعد مرور ساعة تقريباً إتضح أن القارب المطاطي قد تمزق من الجانب الأيمن وبدأ في تفريغ الهواء والغرق، إرتبك المهاجرين وصاروا يقفزون فالماء، أخذت جالون البنزين الذي كنت أجلس عليه وأفرغته بسرعة فالماء وتشبث به صار المرافقين يصيحون للنجدة بلا جدوى، تشبث حبيبي بصديقته التي كانت تعرف السباحة وذلك لأنه لم يكن يعرف السباحة ولم يصمد أكثر من عشر دقائق تقريباً حتى ابتلعه وصديقته ذلك الوحش الذي كنت أشعر بوجوده ليلتها في أعماق البحر، غرق صاحب القارورة والخبز وماتت زوجته أيضاً فور قفزها من القارب نزلت كالحجر فالقاع، أصابني ذعر شديد من هول الحادث وكدت أموت من شدة البرد فما عدت أشعر بأطرافي وانتابني شعور غريب ليلتها، شعور لا أستطيع أن أصفه وكأنه شعور ما قبل خروج الروح شعرت أن روحي ستترك جسدي وحيداً وجبتاً للأسماك في الصباح، كان قلبي يخفق بسرعة وكأنه طبول تقرع صممت على التمسك بجالوني جالون الحياة. وحملت في أحشائي جنين أسميته المستقبل الجديد أو الفرصة الثانية، لعله يولد ويكبر وينقذني من طيف الموت الذي حلق فوقنا واختطف منا العديد، اختطفهم الواحد تلو الأخر وكأنهم سرب من النمل غرق في شربة ماء.
لم أهتم إلا بنفسي محاولة التماسك وسجن روحي ومَنْعِهَا من الطيران، فجأة رأى أحد المهاجرين نوراً قادماً من بعيد بدى لنا أنه قارب المهرب قد جاء لنجدتنا، ولكنه لم يكن ذلك الوغد الجبان بل كان قارب صيد لصيادٍ شجاع سمع صراخنا الذي مزق الرياح وسكون الليل واستقر في أذانه بعد أن أنهكت أجسادنا وخلل البرد عظامنا، جاء وصار يطوف حولنا ويقول كلمات لم نفهمها ثم أخرج هاتفه وأجرى اتصال، اتصل بفرقة حرس السواحل الذين جاءوا على الفور بقارب كبير وسريع لنجدتنا. بدءوا بتحميلنا على القارب الكبير وتركوا الغارقين منا عشاءاً للأسماك،كأنهم عاقبوهم على عدم صمودهم أمام الموج والموت .
عادوا بنا إلى الشاطئ كنت أرتجف من البرد، كان من بين الناجين طفلين تشبثا بقطع خشب أرضية القارب الغارق وصمَّدوا حتى تم انتشالهم صارعوا الموج وانتصروا على الغرق ولكنهم المساكين لم يصمدوا في وجه البرد فقد ماتا من البرد بعد وصولنا إلى الشاطئ.
كان جسدي يرتعش من يقايا الخوف فيه وعظامي تكاد تنكسر من البرد، أنزلونا من قارب الإنقاذ وأمرونا بالجلوس على رصيف المرفأ إلى أن يتم الاتصال بالهلال الأحمر لتقديم الرعاية الصحية لنا ونقل جثث الطفلين الذين فارقا الحياة، وزعوا على النساء بطاطين وبعض الملابس المستعملة صار بعض الرجال يصيحون ويطلبون من الشرطة نقلنا إلى مكان ما أقل برداً من العراء الذي وضعونا فيه في انتظار الطاقم الطبي، لم يلتفت الحراس لنداء المساكين حتى جاء رجل ببزة عسكرية يبدو أنه آمرهم وأمرهم بنقلنا في مستودع كبير، نقلونا إلى مستودع به شاحنات وقوارب مطاطية ممزقة وبعض محركات القوارب، جاءنا أحد الحراس بعلب العصير وقطع الكيك وقوارير الماء، لم أكن جائعة ليلتها على قدر ما كنت خائفة من ما هو قادم كنت لأزال أستشعر الخطر، التفتت لي أحد المهجرات وقالت (يجب عليك أن تتناولي الطعام الذي في يدك فجسدك يرتعش من شدة البرد.. إنك تحتاجين إلى طاقة وإن كنت لا تريدين الآكل فأنا أحتاج المزيد).
ناولتها ما في يدي من طعام وأبقيت قنينة الماء، جاء الطاقم الطبي وكانت معهم سيارة إسعاف مجهزة، طفق أحد الأطباء وبيده دفتر يسأل عن أسمائنا وجنسياتنا، لم ألاحظ ليلتها أنهم كشفوا عن أي منا فبعدما قاموا بأخذ أسمائنا جاءت حافلة كبيرة خرج منها سائق شاب وقال لنا (لا تخافوا سوف ننقلكم إلى مكان ما أفضل من هذا لتقيموا فيه).
تم نقلنا إلى هذا المركز كنت قد سمعت من قبل عن مراكز إيواء المهاجرين الأفارقة وسوء المعاملة فيها وهذا ما زاد ارتباكي فكرت في الهروب ملايين المرات قبل أن تبطء قدمي هذا الجحيم، تصورت المكان الذي سأقبع فيه تخيلت أسواره العالية مكان نومي في الركن على الأرض صحون الأرز والمعكرونة البيضاء مراحيض النساء والروائح، صنابير الماء المالح، شجار النزيلات على قطعة الصابون تخيلت كل شيء وكان خيالي وظني في محلهما. ها أنا اليوم آكل صحن الفطور المائة وستون في هذا المكان أحتضن رسالتي هذه وأحلامي معاً لعل الموت يزورني فجأة لألقى موزاس أو تأتي المعجزة الإلهية لنخرج من هنا قطعة واحدة، حتى سفارتي لم تكلف نفسها تذكرة نقلنا من هذا الجحيم إلى جهنم حتى، اعتدت على حياتي هنا بعد محاولات لا تعد ولا تحصى للفرار من هنا، صار كل همنا هو أن تأتي إحدى المنظمات الخيرية وتتبرع لنا ببعض الأغطية أو الملابس أو قارورة شامبو نحصل منها على حمام واحد بالماء البارد، مائة وستون يوم وأنا أتسأل عن الذنب الذي قذفني هنا عن الخطأ الذي فعلته لأنال كل هذا، أضع رأسي على الوسادة في الليل وفي خيالي صورة لأحد المهاجرات في أوروبا تعمل في أحد المطاعم أو حتى في مواخير أوروبا المتعفنة ثم تعود لبيتها لتعد عشاء صديقها أو صديقتها وتنام ممتلئة البطن دافئة بين جدران ملونة على سرير رطب و أخرى في حضن زوجها وثالثة ورابعة نامت باكراً لتستيقظ باكراً للدراسة أو العمل بينما أنا صار حلمي العودة إلى وطني لبيع الخضار في السوق أو الملابس المستعملة في عطلة نهاية الأسبوع في سوق المدينة.
كثيراً ما أشعر أنني جثة بلا روح تأكل وتنام مع الأموات هنا في هذه المقبرة حياتي ستنتهي هنا لم يعد لدي طموح ولا شغف للحياة.
سكتت “وازا” لتذرف الملح من عينيها، وتلقي السلام مبتعدة نحو ركنها البارد.