أكوام من الأفكار تجتاحني كلما جلست في الشرفة، ثلاثة أطفال ينادون صديقهم في المبنى المقابل بضحكات تعلو وهمسات يهمسون بها لبعضهم لم أفهمها ثم فجأة تعلو ضحكة أحدهم مجلجلة وهم يعيدون مناداة رفيقهم في الأعلى .
أعد قهوة الصباح دون فيروز هذا اليوم كنت موقنة بأن الجارة ستطرق الباب كالعادة وستقول لي بعد صباح الخير بأن أحد أولادها سيزورها اليوم وعليها أن تعد كل الأطباق التي يحبها أتابع حركة يديها المتوترة ونظراتها الشاردة كلما فتحت معي نفس الحديث.
أحاول بصعوبة اقناعها بأن تدخل معي للشقة لنتحدث دون أن نضايق الجيران أخبرها بأني أعددت كيكة البرتقال بالأمس وأنتظر من يشاركني فيها ، تقول بأن الدكتور منعها من الحلويات وأن أعلم جيدا أنها لم تزر العيادة من قبل أن أنتقل إلى هذه الشقة وأنها كالعادة تعدني بأن تذهب ولكنها انشغلت .
تنسى جارتي كل شيء لكنها لا تنسى أحداثا صارت معها في طفولتها أو يوم جاؤوا لخطبتها وهي تلعب في الشارع مع بقية الأطفال مباراة كرة قدم ، كيف سحبها والدها من بينهم وأغلق عليها باب البيت وتوعد الجميع بعقوبة كبيرة إن سمحوا لها بالخروج. تعيد على مسامعي هذه القصة وتضحك بقوة في كل مرة تقول بأنها خافت من والدها وانصاعت للأمر وحدث ما كان يريده، تزوجت وأنجبت الأولاد والبنات وكانت حياتها مليئة بالصخب والأصوات ثم في النهاية وجدت نفسها وحيدة تحاول الانشغال بأي شيء لتصل إلى سريرها وهي منهكة دون أن تتلفت لوجع قديم.
يعلو صوت غلاية القهوة في المطبخ اسكب فنجانين أقدم لها واحدا وفي صحن مجاور قطعة الكيك التي تفضلها، أحاول أن أفتح معها حديثا ينهمر بيننا ربما ترتاح ولكنها في هذه المرة تخبرني بأن الولد كبر وصار له عائلة وقد وعدها بأن يقضي اليوم معها ولذلك عليها أن تسرع لتجهز كل ما وعدته به.. نشرب القهوة على عجل تبادلني ابتسامة رضا بعد أن ذاقت قطعة الكيك ثم تغادر ..
اعلم أن كل ما قالته لي عن زيارة الولد اليوم من خيالها وأنها تنكش في ذكرياتها ما تسد به شوقها إليهم وأن كل ما حدث لا يعدو مراقبة عبر ثقب صغير في ذاكرتها وأنها في الغد ستخبرني بأن البنت ستأتي للإقامة عندها مدة أطول .
