سعيد العريبي (حكايات وذكريات - سيرة قلم)
سيرة

النيهوم: الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر

خلال لقائي الأول مع النيهوم بفندق الجزيرة.. حدثته عن إعجابي الكبير.. بتلك الإشارات الإيمانية التي كتبها في وقت مبكر من حياته.. وقبل أن يخالطها الغبش والشك والارتياب خلال العقدين الأخيرين من حياته.

وهنا.. وتأكيدا لما ضمنته لمقالتي: (النيهوم والنداء من أسفل المئذنة).. التي كتبتها عنه منذ سنوات.. أخصص هذا الجزء وربما الجزئين الأخيرين.. للحديث عن النيهوم: (الإنسان المؤمن بالله واليوم الآخر) استنادا على ما كتبه في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات.

الإنسان ذلك الكنز العظيم

من خلال مقالاته الرائعة: (صوت من أسفل المئذنة).. و (كم قرشا يساوي الإنسان).. و (العيد من الداخل).. ومقالات أخرى كتبها في وقت مبكر من حياته.. وخاطب من خلالها الإنسان وذكره ببعده الآخر.. بل إنه أشار الى البعدين معا.. بعد الإنسان الأسمى الذي لا يقدر بثمن لأنه جزء من الكمال المطلق كما يقول.. وبعده الأدنى الذي يشده الى الأرض.. إذا ما غلّب قبضة الطين فيه.. وزيف محتوياته.. انظر إليه وهو يقول:

(أنت كنز لا يقدر بثمن لأنك تحمل أثمن الكنوز.. أعني حتى إذا كنت تنام على الرصيف مثلنا.. فالثراء في الداخل في عالمك المتعالي الذي لا مجد مثله.. ولا قوة مثله ولا بساطة مثله.. أنت جزء من الأصل المتناهي الكمـال.. أنت لا تخسر شيئا لأنك غير قابل للخسارة، وغير قابل للهزيمة أو للحزن أو للموت).

بهذه الكلمات العذاب.. وبهذا الأسلوب الرائق السلس.. وبهذه المعاني الإيمانية يتوجه النيهوم الى الإنسان المتعب البسيط.. الى الفقير المعدم الذي ينام على الرصيف.. ليذكره بأنه جزء من الأصل المتناهي الكمال.. وبأنه يحمل بداخله أثمن الكنوز الذي هو الله تعالى.. بل ليقول له بأنه كنز لا يقدر بثمن.. وبأن الثراء في داخله.. وإن كان معدما ينام على الرصيف.

الإنسان إذن – في اعتقاد النيهوم – كنز لا يقدر بثمن.. لأنه جزء من الأصل المتناهي الكمال.. وهو أيضا رخيص مهين.. يهبط من مقام التكريم.. من السمو والرفعة والتعالي.. ويعرض عن كل ذلك.. ويخلد الى الأرض بإرادته واختياره.. وفي ذلك يقول: (الإنسان كنز غير محدود، ولكنه أحيانا يزيف محتوياته دون أن يدري).

نعم قد يزيف الإنسان محتويات كنزه غير المحدود.. ويطليها بالقار.. وذلك عندما يخطئ ويضع الله في خدمة مطامعه وأهوائه.. بدل قيمه العليا.

الإنسان في اعتقاد النيهوم

يصنف النيهوم الإنسان.. بين غال ورخيص.. غال ككنز غير محدود.. ورخيص الثمن كعملة نقدية من فئة زهيدة القيمة.. فما الفرق بين هذا وذاك..؟ يقول النيهوم مفسرا:

(إنك إذا كنت لا تملك الله في داخلك.. فسوف ترى أنك رخيص.. وأن السلطان يستطيع أن يشتريك بملء منخرك فضة.. ولكنك إذا كنت تملك الله حقا في داخلك فمن يستطيع أن يشتريك.. لذا مات الحلاج لأنه كان باهض الثمن إلى حد لا يصدق).

ثم يلتفت إلى القارئ ليذكره بحقيقة نفسه.. وبقيمته التي تعلو حينا.. وتهبط في أحيان أخرى.. فيقول له:

(سواء كنت تعرف الله أو لا تعرفه.. كم تساوي أنت.. ملء بطنك حساء..؟ ملء بطنك معلبات هولندية..؟ كم يساوي المرء بدون الله..؟ وكم يساوي بقوة الله..؟ هذا أعظم الأسئلة على الإطلاق.. هذا هو الفرق بين الدنيا والآخرة.. هذا كل شيء في ثلاث كلمات.. الإنسان يباع بملء منخره فضة.. أو لا يباع بأي ثمن على الإطلاق.. لأن: واحد + واحد = واحد.. أعني مادام الواحد موجودا.. وما دام غير قابل للزيادة أو النقصان بكماله اللامتناهي).

ثلاث صور تخص أديبنا الكبير: 1. كريم وأمينة صادق النيهوم. 2. المقهى الذي كان يفضل الجلوس فيه. 3. ركنه وطاولته المفضلة بالمقهى.
ثلاث صور تخص أديبنا الكبير: 1. كريم وأمينة صادق النيهوم. 2. المقهى الذي كان يفضل الجلوس فيه. 3. ركنه وطاولته المفضلة بالمقهى.

كم تساوي أنت بدون الله..؟ وكم تساوي بقوة الله..؟

نعم هذا هو أعظم الأسئلة على الإطلاق.. يتساءل النيهوم كعادته دائما.. لكنه وكعادته أيضا لا ينتظر الجواب.. بل إنه وبالمقابل يتحفك ببعض الإشارات المضيئة.. التي تساعدك على استنباط الإجابة.. ومعرفة ما يريد أن يقوله لك.. ومن هنا نراه وبعد تساؤله مباشرة يقول: (وهذا هو الفرق بين الدنيا والآخرة).

ما هو الفرق بين الدنيا والآخر.. ؟

الفرق بين الدنيا والآخرة.. كالفرق بين المؤمن والكافر.. بين من يعيش بقوة الله.. ومن يعيش بدون الله – حسب تعبيره هو – فهذا يعمل للآخرة.. وذاك يعمل للدنيا.. ألا يذكرنا ذلك بقوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ﴾.

وكثيرا ما يكرر النيهوم ذلك في العديد من عباراته الجميلة الشائقة.. التي يتقن صياغتها فكرا وأسلوبا.. كتلك التي نرددها ويستغلق علينا فهمها.. فتختلف وجهات نظرنا حولها.. ونحاول دائما أن نبحث لها عن تفسير مقنع ومفيد.. كقوله: (احفر في السماء تصنع مئذنة.. واحفر في الأرض تصنع بئرا).

هذه العبارة التي أعتقد أنه يشير من خلالها الى قيمة عمل الإنسان في ميزان الله – تماما كما مر بنا – فثمة من الناس من يعمل للآخرة.. فهو يحاول دائما أن يرتفع مع نفخة الروح التي تشده الى السماء.. والمئذنة أقرب وأفضل الوسائل لفهم ذلك.. ومنهم من يخلد الى الأرض.. مغلبا جانب

التراب فيه.. والبئر أقرب وأفضل الوسائل لفهم هذا المعنى.. وفي ذلك بالطبع إشارة صريحة وواضحـة الى قوله تعالى:

﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ* وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾.. صدق الله العظيم.


المرفقات:
ـــ  ثلاث صور تخص أديبنا الكبير. 
1. كريم وأمينة صادق النيهوم.
2. المقهى الذي كان يفضل الجلوس فيه.
3. ركنه وطاولته المفضلة بالمقهى.

مقالات ذات علاقة

محاولة القبض على سيرتي الأدبية!؟ (13)

حواء القمودي

للتاريخ فقط (13)

عبدالحميد بطاو

عايدة سالم الكبتي.. وحديث الذكريات

المشرف العام

اترك تعليق