المقالة

سلطة المجتمع بدون الدولة

تراكم وحشد - من أعمال التشكيلي الليبي رمضان أبوراس.
تراكم وحشد – من أعمال التشكيلي الليبي رمضان أبوراس.

أزعم أن مفهوم التنظيم الإجتماعي ليس مطابقاً لمفهوم الدولة. أفهوم الدولة يحتاج وقت وصبر وجلد وفيه كثير من الإختلاف والتحدي ، وإذا كان أفهوم الدولة يصعب حصره في مقالٍ واحدٍ، فإنّ افهوم التنظيم الإجتماعي يمكن تعريفه على نحو أسهل. فمبدأ تعريف التنظيم الإجتماعي له أسباب موضوعية وعلل تاريخية وتجارب حياتية عاشها الناس بالتواتر والإستمرارية بما يتلاءم وحاجات المجتمع المتعددة التي في غالب الأحيان تقليدية ، وفي الشأن الليبي لم يكن ثمة من دولة  بهياكلها و أجهزتها كي تؤدي و ظائفها كاملة وإنما ساد في المدينة تنظيم عمل بسيط وعلاقات اجتماعية مرتبطة بالتبادل التجاري في الأسواق و الحارات مع إنتشار وتماسك الأختصصات الحرفية في الانتاج الحرفي و التجاري الظاهرة في الأسواق القديمة و بناء مؤسسات مسقلة عن مؤسسات الدولة إلى درجة أن العرف كان مقبولاً لدى سلطة الدولة في حالة أي مشكلة مهنية أو اجتماعية. وكان المجتمع قادراً إنتاج مؤسسات للنفع العام و الخدمات الأجتماعية كما كان الحال في وظيفة الوقف و الجوامع و الزوايا و الخدمات التجارية كما أسواق ” الظلام ”  والنوادي الرياضية و الثقافية .  ولا يعني هذا أن المجتمع لا يستطيع تسييّس ذاته إذا ما اِعترف سلفاً بأنه في حالة تشابك وصراع مع ذاته منذ آواخر حقبة الإستقلال وحتى الآوانة الأخيرة ولم يتم فيه الحسم بعد.

(1)

فهل بنية المجتمع الليبي التقليدية  كانت تنطوي على حسن إدارة العلاقات الاجتماعية والإنسانية بمعزلٍ عن سلطة الإدارات الحاكمة والبلديات المحلية؟ وهل هذا زعمٌ فيه كثير من الصحة أم أنّه كلامٌ فارغٌ يدور حول نفسه ويصطدم بافتراضيات ينبغي التنويه بها؟

(2)

منذ أزمانٍ طويلة و بنية المجتمع الليبي كانت تقليدية للغاية، وظهر ذلك بالذات في المدينة، فقد كانت هناك مجموعة من القيم التقليدية التي كانت تنظم حياة الناس وتسيس معظم سلوكاتهم وتجماعاتهم وعقائدهم وعلاقاتهم الاجتماعية بشكل عام ومن دون تجريب سياسي أو مغامرة حالم ٌ أعمى يقود البلد إلى كارثة محققة ، فكانت في القيم التقليدية تستند على المعيار الاخلاقي السائد في المجتمع وغالباً بدرجة كبيرة ولم تكن تلك القيم شطحاً في الدعاية والسياسة والمقتنيات الاديولوجية.

(3)

 فقد كانت تللك القيم، والتي أخذت تتلاشى منذ منتصف الستينات والتي تزداد تدهوراً على مرّ السنين، بمثابة المصدر التشريعي الرئيس للسلوك الإنساني الفردي والعام والتعايش الاجتماعي المترابط وسط الشواغل والعقبات وبمعزل عن قانون “الدولة” وأجهزتها العقيمة. فقد دأبت تلك القيم على اشباع رغبات الناس الاساسية وتوفير الحاجات الضرورية التي يحتاجون اليها حيث يتوازى الخط الفردي والعائلي مع الخط الإجتماعي العام، فالبنية الإجتماعية ذاتها كانت تنبض بفكرة تهذيب السلطة السياسية والسيطرة. فالتماسك الأجتماعي التقليدي كان يُسير الحياة بسهولة إلى أنْ أخترقته علاقات اجتماعية جديدة صاحبها سلوكيات يصعب التحكم فيها من جراء أنماط الأستهلاك الحديثة .

(4)

 فعلاقات الناس وطرق التعامل فيما بينهم كانت تخضع لتلك القيم والتي كانت بمثابة عرف لم يكن مدونا أو مكتوباً وإنّما مكتسباً كنمط من انماط ثقافة المجتمع المقبول لدى الرأي العام الذي كان يؤكد على الالتزام به والإتباع له راحة من عناء التصادم بين الناس وضبطه بقوة الوعي الفطري والوصايا المستحسنة والتنبيهات العامة.

(5)

فقد ورث المجتع تلك الأعراف وقد استقاها من اجيال وحقب تاريخية سابقة وسار عليها بما لها من تأثير كبير في اذهان الناس وتصرفاتهم، ومن يخرج عنها أو يخالفها كان يواجه ببعض الوسائل العملية المادية والمعنوية. لقد كانت الأعراف بمثابة نمطٍ من أنماط السياسية وصحة التفكر والفحص القائم على الوفاق.

(6)

لقد كان هناك عقد اجتماعي غير مكتوب ينتظم الناس بموجبه في علاقات اجتماعية متشعبة من أنشطة واعمال حيث كان يشكل أساس السلوك الاجتماعي والفردي حسب قواعد معايير متفق عليها سلفاً بوعي أو بدون وعي. مثلاً: في فترة من فترات الضبط الإجتماعي في معظم المدن الليبية كان أهل الأسواق وتجارها لا يقفلون محلاتهم التجارية وقت الظهر وبعده ويكتفون بوضع كرسي أمام المحل وتغطية البقول بقطع الأقمشة ومنهم من يكتفي بوضع عصاً ويتركونها من دون حراسة أو رقيب حيث العرف ذاته يدلل على معنى الكرسي أمام المحل أن “الدّكان امسكر” أو مقفول ومن أراد شيئاً يرجع فيما بعد عند عودة التجار إلى محلاتهم ومباشرة فتحها للزبائن.

(7)

 بمعنى آخر اتسمت تلك البنية بوجود تنظيم اجتماعي مستقلاً عن الحكومات يقوم على العرف الذي كان بمثابة قانون ينظم علاقات الناس وهم خاضعين له طوعاً حتى و إنْ لم يكن ملزماً أو صادراً عن قانون صريح ولم يكن هناك تخويف أو ترهيب وليس عجيباً إنْ كان المجتمع حينها أكثر استقراراً وأمناً. فقد تجلى ذلك العرف في معظم المدن والقرى بأشكال مختلفة في انسجامٍ في غاية البساطة.

(8)

فالناس كانوا يقومون باختيارات مختلفة ويفاضلون بين أهداف متعددة ويسعون لتحقيقها بوسائل مختلفة وذلك داخل مجتمع توافرت فيه بعض الأسس المادية والعرفية لتحقيق تلك الغايات وكان التقليد الإجتماعي العرفي هوشبكة الأمان للناس ولا يخرج عنه كل مواطن يتمتع بضمير حي مهما كلفه العوز أو اشتدّ عليه ضيق الحال، وهكذا كانت التقاليد لا تغيب عنها كيفية التعامل مع مشكلة الحياة والتنازع الاجتماعي.

(9)

ومن مظاهر تلك القيم الأجتماعية أنها كانت تتكون من عدة حقول متشابكة دينية واقتصادية وثقافية وفنية وسياسية واجتماعية ومن ثمة كان من الطبيعي أن تظهر في تلك البنية سمات من الهيمنة والاستغلال خاصة مع الطرفة النفطية وتنفصل انفصالاً حاداً عن البعد التقليدي الإجتماعي وتنحو هذه السمات نحو الإكتراث بفكرة شطارة النهب وبطرق شتى واللجوء إلى بنية جماعية توحي بالنهب وتصرح به إلى درجة اضطراب حركة المجتمع الليبي وصعوبة تنظيمه بسبب التقسيم والتفريق والخروج على الأعراف والذي إذا تمادى في تراكمه قد يدفع الناس إلى التشيع للإفراط في التسيب والتفريط في البلد.

مقالات ذات علاقة

يسألونك عن القبيلة

المشرف العام

الشخصية الليبيـة

المشرف العام

الحاصل معناه

عبدالرحمن جماعة

اترك تعليق