طيوب عربية

عطر أمي

إلى: شمسة بنت صالح

من أعمال التشكيلية الأردنية نوال عبدالرحيم
من أعمال التشكيلية الأردنية نوال عبدالرحيم

وأنت توقظين الصباح من منامته
نستيقظ نحن أطفالك الجوعى إلى الحلم
نسرح بين الحقول وفي المراعي أو نذهب إلى الدرس
نطارد شيئا منك مازال من ليلة البارحة
وأنت تخضًين لنا اللبن
وتتركينه مع الخبز
يشرق حنانك من مدامعنا
وحين تحمرّ الوجنات الصغيرة من أثر الشمس والتعب
كنت تأخذيننا إلى حضنك العميق
وأنت تنادين على المطر المنسكب على قمم الجبال البعيدة
( كريم، كريم، الله يقربك من بعيد)
نجلس على ضفة الوادي مأخوذين بالهدير وبخبز مدهون بسمن البقر الذي تبقينه مخبأ في مكان آمن
وأنت تلبسين العيد ملابسه يشرب المكان رائحة بخورك وتطلقين عليها رائحة العيد
وأنت التي ضمخت أقدامنا بالحناء
كحّلت عيوننا بالأثمد
وغسلتنا بورق السدر
ثم أخرجت قارورة ذهبية من سحارتك المعدنية لترشين على ثيابنا
نفحات من الأبد
ذلك الهابط الصاعد في المكان
الساكن في أرجاء البيت وفي طرقات الحارة
المستلقي على سواقي الأفلاج
الناهم البارد النارنجي الياسمينيّ الشورانيّ الريحانيّ الصندليّ الجبليّ
المعجون بالآس وزيت الشوع
المائي في لهفتنا لشربه رشفة رشفة
الصباحي كلما أشرقت شتاءا
والمسائي حين نؤوب من ركضنا كل صيف
ذلك الحنون مثل لحافك الذي نحظى به كلما هاجمنا النوم بغتة فتغطينا به
الشفاف مثل صفحة الماء في برك الوادي
العذب كموسيقى
الهاطل من أسقف البيت المتشقق
الساكن تحت أظفارنا
الواهب العبق المتضوع
الناهب أحزاننا
الحبيب الذي لا ينفك عن زيارتنا على غفلة
الأمين على قلوبنا الوجلة من غيابك
الناصع البياض مثل الرأفة المقطّرة من عينيك
الراقص الحذق كزوابع القيظ
المتوغل في مساماتنا وأحلامنا
المائي في لهفتنا لشربه رشفة رشفة
السماويّ في زرقته المشوبة بالغيم
والغيبيّ الذي نعرفه ولا ندركه
يجيء فجأة ويمضي
أفتح سحارتك ويتسرب منها
أسحب أنفاسي محاولا القبض عليه
فيهرب ساخرا مني
ثم أفتش عنه بين أغراضك ولا أجده
أخاف منه
أخاف من عطرك يا أمي
أخاف من العطر الذي يندس في حقيبتك الجلدية
هناك حيث خاتمك الفضيّ يضيء كل أيامي القديمة
هناك
من عمق غيابك يجيء ذلك العطر
ذكرتني رائحته بطفل ملطخة أقدامه بالتراب
وهو يركض حافي القدمين
آه من تلك الرائحة التي لا تزال تعبق في زوايا المكان
الرائحة الرابضة بين مكحلة الفضة وعلبة الصندل
أبحث عن أصابعي
الحناء يحملني إلى إصابعك الناحلة المعروقة
يزهر في كفك بساتين وغابات
أبحث عن صوتي
هسهسة الأقمشة المرتبة بعناية
وسوسة مسبحتك الحجرية
طغيان البخور
أبحث عنك
يأخذني العطر إلى الطفل الجائع حين يقترب من موقد الخبز منتظرا أن تمدي إليه برغيف مدهون بالسمن وبقبلة على خده
أبحث عنك في عطرك
في رائحته التي تضمخت بها جدران البيت
وأبحث عن ذاكرتي التي تقودني كل مرة
إلى البكاء.

مقالات ذات علاقة

إطلاق شبكة الثقافة والفنون العربية “آكان”من أجل التضامن الثقافي

المشرف العام

لا يوجد فلسفة واحدة

نعمان رباع (الأردن)

الدافعية والفاعلية والتفاعلات الاجتماعية

إبراهيم أبوعواد (الأردن)

اترك تعليق