سؤال قدمته للصديق وعميد سجناء الرأي الليبيين الاستاذ علي العكرمي.. وكان رده كما هو أدناه.. متخم بمعاناته ومعاناة اخرين ممن ذاقوا ويلات السجون لزمن طويل:
العزلة دائمًا ذلك الوحش الذي يحاول أن يبدو لطيفًا.. بعض الناس لا يستطيعون تحمل البقاء بمفردهم، والبعض الآخر يزدهرون في العزلة.
في دوحة العزلة تتعلم الاستمتاع بصحبة النفس، ويتألق بعض الناس مثل النجوم في الظلام. يعتمد الأمر على قدرة الشخص على التكيف مع العزلة، عادة يميل الأشخاص الذين قضوا بمفردهم فترة طويلة إلى استغراق وقت أطول للثقة في شخص ما مقارنة بالآخرين.
العزلة او الوحدة، تبني الإنسان من الداخل، لكنها في بعض الأحيان تدمره أيضًا، فهي، اما ان تسمح له بالغوص في أعماق الذات والفكر، او تجعله مكتئبًا حزينًا متألمًا.
ببساطة، الشعور بالوحدة او العزلة الاجتماعية يقود الإنسان إلى نوعين من المواقف، إما أن يدخل في حالة اكتئاب، أو يخرج منها أقوى مما كان عليه.. لقد أمضى (العكرمي.. عميد سجناء الرأي الليبيين)، ثلاثون عاما خلف القضبان، قضى معظمها في الحبس الانفرادي.. وعندما أُطلق سراحه، خرج أقوى مما كان عليه عندما سجن.. وكتب لنا عن تجربته القاسية رواية، بل رسالة تخاطب الاجيال القادمة، عنوانها ” طريق جهنم ” كان شاهدا على العصر، ومؤرخ لحقبة زمنية.. فما عساه ان يقول لنا اكثر مما حملت سطور روايته، عن العزلة خلف القضبان ؟
مجرد مؤانسة مسائية.. ايها الجبل.. تقبل تحياتنا.. عابد.
رد الاستاذ العكرمي:
وأني لمثلي ان يجيبك على مثل هذا السؤال الباذخ في حضرة القامات الأربع وهم على التوالي:
آدم الحواز.. عمر الواحدي.. رحمها الله.. اللذان أمضيا 14 عاما في السجن الانفرادي في قسم الإعدام “المحقرة” ولم يخرجا خلالها للشمس.. ولم يحظيا ولو بزيارة واحدة لأهلهما.. وانتهى الأمر باستشهادهما سنة 1984 م.
أما السجين الثالث فهو المثقف “عبدالونيس محمود” الذي امضى نفس المدة في السجن الانفرادي مع إضافة سنوات أربع أخرى مع سجناء محكوم عليه بالإعدام.. وافرج عليه بعد ثمانية عشر عاما سنة 1988م.
أما الرابع فهو عميد السجناء.. السيد “أحمد الزبير السنوسي” الذي امضى في السجن الانفرادي 9 أعوام.. أضف إليها تسعة أعوام أخرى مع سجناء محكومين بالإعدام. ويكون بذلك قد امضى 18 عاما ونصف في زنزانة لم يخرج خلالها للشمس ولم يحظى خلالها بأية زيارة لأهله. ثم استثني من افراجات اصبح الصبح مثلما استثنينا منها.. وانضم إلينا.. ليمضي معنا 11 عاما أخرى.. ويشاء الله أن يفرج عليه سنة 2001 م وقد بلغ من العمر سبعين عاما.. وهو لا يزال قادرا على ممارسة رياضة القفز بالحبل بعد ان امضى 31 عاما في السجن ليسلمني العمادة من بعده.
السجن في بلداننا أخي العزيز.. مكان لا يراد له أن يكون بؤرة الحدث.. لأنه يفضح سوءات ويكشف عورات لا يراد لها أن تعرى.
السجون في بلداننا العربية.. بيوت الموتى.. وقبور فاغرة الأفواه.. تلتهم بشراسة كل ما يقذف إليها.
أما عن سؤالك أخي العزيز.. فأقول: التعايش مع ذلك المكان البائس بعيدا عن الاهل والولد.. تجربة لا يمكن ان يسبر غورها.. إلا من اكتوى بحر نارها..
وكلما استعد المرء لمثل هذه المغامرة.. وتسلح بزاد ثقافي متين.. واستند لقاعدة فكرية صلبة.. وامتلك مشروعا حضاريا واضحا يجعله يقدم في سبيله بوعي ورضى على كل أنواع التضحيات.. مع شخصية مستنيرة تحب الخير للآخر.. تستهوي القلوب.. لينة العريكة.. حلوة المعشر.. شخصية تألف وتؤلف.. عندها تهون المحنة.. بل تتحول فعلا إلى منحة إلهية نتجاوز بك قسوة المكان.
لقد عشنا مع اناس يختلفون معنا في الاصول والفروع…لمدة عقد ونصف.. واقمنا معهم علاقات إنسانية فريدة. كانوا يقرؤون مناشيرنا الممنوعة.. وكنا نقرأ كتبهم المصادر ة. ولم يتدخل النظام طيلة هذه المدة في فض أي نزاع بيننا.
كنا نشعر باننا معهم على متن مركب واحد.. ونجلد بسوط واحد.. اقتسمنا معهم كل شيء.. من رغيف الخبز الجاف إلى الفلقة.
وكم هو حري اليوم بنخبنا.. ان يترسموا خطى هذه التجربة.. لعله ينجحون في إقامة دوله طالما حلم بها القوافل من الشهداء.. والآلاف من المناضلين الشرفاء.
دمت.. ودام قلمك الرشيق الأنيق.. منافحا عن قضايا الحق والعدل أخي العزيز.