داليا شمس | مصر
في كتاب «شهر في سيينا»، الصادر أخيرًا عن دار الشروق، يسير هشام مطر في ثنايا المدينة وثنايا نفسه.. يُضيِعُ طريقه دون اكتراث.. يلاحق الأغراب ليكتشف حكاياتهم وأماكنهم المفضلة.. يزور المقابر ليتعرف على أهل المدينة القدماء ويُحيى بخياله الذين لم يعودوا بيننا.. وقبل كل ذلك يقف أمام لوحات المتاحف لأيام وساعات، فهذا هو السبب الرئيسي والمعلن لقضائه شهرًا كاملًا في سيينا بوسط إيطاليا، في إقليم توسكانا، التي تشتهر عالميا بموروثها الفني ومدرستها الخاصة في الرسم والتصوير الزيتي. يحملق في أعمال فناني المدينة الذين صنعوا مجدها بين القرنين الثالث عشر والسادس عشر، ونافسوا مدرسة أخرى مجاورة قامت في فلورنسا. وقد بدأ ولعه بالمعالم التاريخية لهذه المدينة الساحرة، والمدرجة على قائمة اليونسكو للتراث الإنساني، منذ أن كان في التاسعة عشرة من عمره، طالبًا يدرس العِمارة في جامعة لندن عام 1990. في تلك السنة، اختفى والده، جاب الله مطر، المعارض الليبي الذى تم اختطافه من منفاه في القاهرة بشكل غامض.
اعتاد الطالب الشاب اختيار إحدى لوحات المعرض الوطني وتأملها حوالى الساعة لمدة أسبوع كامل قبل أن ينتقل إلى أخرى، ومن هنا ظهر افتتانه بالمدرسة السيينة للرسم التي مزجت بين التأثيرات البيزنطية والأساليب القوطية، ومهدت لفترة النهضة. يأخذنا هشام مطر إلى رحلة في تاريخ هذه المرحلة التي لا ينفصل فيها الفن عن السياسة، لأن اللوحات كان يتم تنفيذها على الأغلب بناء على رغبة أولى الأمر، سواء النخبة الحاكمة المكونة من تسعة أشخاص منتخبين هم أعضاء «المجلس المدني»، الذين يسكنون القصر الكبير بساحة «ديل كامبو» أو رجال الكنيسة الذين سيتعاظم دورهم لاحقًا مع انتشار وباء الطاعون في أوروبا، ما يفسر جزئيًا ذيوع الموضوعات ذات الطابع الديني التي غلبت على الأعمال الفنية، فالرسامون والمعماريون حاولوا تقديم تصورهم للعالم كله من خلال الرب، وحين أصابهم الطاعون اعتبروه ابتلاء وبرهانًا على ذنوبهم.
ركز مطر في كتابه على لوحات بعينها، وأولى اهتمامًا خاصًا لجداريات أمبروجيو لورنزيتى التي تعد أقدم اللوحات العلمانية السياسية، وهى: «رمز الحكومة الصالحة»، «آثار الحكومة الصالحة»، «آثار الحكومة الفاسدة»، الثانية تحاكى كيف سيغدو العالم إن اتُبِعت نصائح اللوحة المركزية التي تُعدد الفضائل وعلاقتها بالسلطة وهى تبدأ وتنتهى بالعدالة، والثالثة تبين سيطرة القسوة والطغيان والغضب والجشع على المشهد. يحلل المؤلف تفاصيل الأعمال، يقارنها برسوم الجرافيتى التي غطت الجدران في أنحاء طرابلس بعد سقوط معمر القذافي، وهو ما يفعله طوال الرحلة، فخصوصية لوحات المدرسة السينية بالنسبة إليه تكمن في أنها “على ثقة بحضورك وذكائك واستعدادك للانخراط فيها. إنها أمثلة مبكرة لنوع الفن الذى سيسود لاحقًا، حيث تكون حياة المشاهد الشخصية مطلوبة لإكمال الصورة”.
هذا هو تلخيص لعبة «الجغرافيا الذهنية» التي انخرط فيها وأراد أن نشاركه إياها لندخل في تجربة حميمية لا تتحقق إلا في حالات الحب والفن والإبداع: «فقط داخل كتاب أو أمام لوحة يتاح للمرء بحق ولوج وجهة نظر شخص آخر»، حينها تتداعى أفكارنا الخاصة مع حكايات الكاتب الذى يمشى ويتذكر وينقلنا معه من مدينة إلى أخرى، من سيينا إلى طرابلس، ومن لندن حيث درس الهندسة المعمارية وعاش فترات طويلة إلى نيويورك حيث يعمل حاليًا كأستاذ في كلية برنارد بجامعة كولومبيا.
يتجول في المدينة لتختلط سيرته وسيرتها، فالروائي والمعماري الذى كُتب عليه المنفى منذ الصغر له علاقة خاصة بالمكان، يتساءل دومًا في كل مدينة يذهب إليها: «ماذا لو ولدت هنا؟ وماذا لو قدر لي أن أموت هنا؟». يفكر في الأبنية بوصفها مساحات تتشكل فيها حياة الإنسان، وسيينا التي بدت له «معقدة كمتاهة»، أصبحت «حكاية رمزية تمنح نفسها لتلبية حاجاته، كثوب قديم متقن الحياكة»، فقد جاءت رحلته إليها في لحظة شديدة الحساسية. كان قد أنجز كتابه «العودة» في أعقاب زيارته لليبيا بعد ثلاثة عقود من الغياب، من أجل البحث عن حقيقة اختفاء والده، وصار مستوعبًا لفكرة أنه لن يعرف أبدا ما حل به، حينها قرر أن يلقى نفسه في أحضان هذه المدينة الآسرة.
يتقن مطر فن اقتفاء أثر الماضي والحاضر، ويجيد فتح الأقواس وإغلاقها طوال النص. مثلًا يقابل آدم الأردني ويصحبنا معه إلى بيته في موعد على العشاء، يُعرّفنا على زوجته – ديانا- المصورة الفوتوغرافية التي رافقته في بداية الزيارة ويتحدث عن قصة حبهما، نجلس معه في حَمّام صديقة إيطالية في التسعين من عمرها وهى تروى تفاصيل علاقتها بزوجها الراحل. وفى موضع آخر يفتح قوسًا جديدًا عن ابن خلدون، عالم الاجتماع الذى أتاحت له مشاهدته لوقائع الموت الأسود بالطاعون أن يُبصر إمكانية نهاية الأشياء ويكتب مقدمته الشهيرة في محاولة للخلاص من خلال خلق شيء جديد لبناء عالم مُحدَث.
سجل ابن خلدون أن الطاعون «جاء للدول على حين هرمها، وبلوغ الغاية من مداها»، هذه الكلمات وغيرها من الآراء التي وردت على لسان الكاتب، في خضم تحليله للوحات زمن الوباء، تشبه كثيرًا ما نعيشه منذ جائحة الكورونا. وصفه للحظات العزلة المروعة التي عمت الأرض وصور الجثث التي وُضِعت فوق بعضها البعض يجد صدىً لدينا، ونستغرب كون الكتاب صدر بالإنجليزية في أكتوبر 2019 أي في الشهر نفسه الذى ظهرت خلاله أولى حالات الإصابة بالفيروس في الصين.
مرة أخرى قرب نهاية الكتاب، يأتي ذكر والده، فهو الشبح الذى يسكن كل مؤلفاته التي حازت عدة جوائز عالمية. يقف هشام مطر أمام لوحة صغيرة بعنوان «إعلان الملاك»، يتفحصها ويشعر بألم شديد في صدره كأنه يتوق إلى شخص بعينه، «إلى مكان أو زمان ولى إلى الأبد». استبطن بعدما ترك سيينا وذهب إلى نيويورك للعمل أن جمع الشمل ربما يكون في الآخرة. في متحف المتروبوليتن راح يتأمل لوحة “الفردوس” للرسام السيينى جيوفانى دى باولو التي تصور لم شمل الأحباء في الآخرة. وتساءل عما يعنى أن يتذكر الأموات الأحياء.. وهنا نصل لنهاية الرحلة، لكن تستمر معنا التأملات حول الحياة والموت والحب والفن إلى ما لا نهاية.
الشروق | السبت 31 أغسطس 2024.