حكايات وذكريات: سيرة قلم 38
لم يرد لها النظام السابق أن تستمر لأكثر من ذلك.. لكنها ورغم قصر مدتها.. كانت مثمرة جدا وذات أثر كبير.. وأنا اليوم أثني على الدكتور خشيم وأترحم عليه وأدعو له بالمغفرة.. تماما كما شكرته وهو حي على تواضعه الجمع، وأخلاقه النبيلة، وحفاوته بي، واهتمامه البالغ بما كتبت.. جزاه الله عن كل ذلك خير الجزاء.
ملاحظاته على ورقة البحث الثانية
وبعد أسبوعين تقريبا من استلامه للورقة الأولى.. قدمت له الورقة الثانية.. وكانت تحوي تسع صفحات.. وأجمل ما في تلك الصفحات.. هو ما ضمنه بها من ملاحظات وتوجيهات.. لا زلت كما أشرت آنفا أحتفظ بها وأعتز بها كثيرا.. ولم لا وقد بدأ ملاحظاته بتواضع جم فقال :
(شكرا يا بني على هذه الروح النبيلة التي أوحت إليك بهذه الكلمات التي قرأت، وهي روح صادقة لا ريب.. لكن الروح شيء.. والبحث العلمي شيء آخر.. فقد تصلح كلماتك الطيبة خطبة مؤثرة في جماعة تستمع وتنصت بتقدير عظيم.. لكنها لا تصلح منهجا علميا، ولا تعتمد للنقاش الجاد الرزين المسلح بالمعرفة الخاصة والشاملة).
ـــ وكم هو رائع ونبيل عندما يعتذر لطالب بسيط فيقول بتواضع أيضا : (إنني – لا جدال – أقدر الباعث لما تقول وأفهمه.. وأقدر هذه الحماسة الإيمانية الغامرة).
ـــ وكم هو رائع أيضا.. وهو يخاطب أحد طلابه بكلامه الطيب المنمق الجميل.. معتذرا ومتأسفا.. يرحمه الله تعالى:
(وقد كررت – يا بني – أنني قسوت عليك في نقدي لورقتك الأولى، فمعذرة.. ليس من طبيعتي القسوة.. ولكن واجب الأمانة يفرض علي أن أقول لك ما أراه صوابا – وليس ضرورة أن أكون مصيبا في ما أرى – وأن أصارحك بالحق الذي تدعو أنت إليه.. فقد خلق الله كل شيء بالحق، وبقدر.
جميلة هي الأفكار التي تعرضها.. لكنه جمال أجنحة الفراشة البراقة الهشة.. وحارة هي كلماتك.. لكنها حرارة الحب تتقد في نفس صاحبها فيتعذب بها هو وحده.. دون أن يجعلها تسري في الآخرين إلا بعناء…).
ــــ وفي نهاية ملاحظاته على تلك الورقة.. كتب يقول:
(إنك تمتلك ناصية اللغة.. إلا من بعض هنات.. وتمتلك الفكرة العامة.. لكنها تحتاج إلى أن تبتعد عن الشيخ الشعراوي.. وأعني ما أقول.. وعن الشيخ كشك.. وأعني ما أقول.. وعن الأخوين مبارك.. وأعني ما أقول.. وعن آخرين.. أنت لا ريب تعرفهم.
هل تريد – يا سعيد – أن تبحث وتدرس وتتعلم.. إذن اقرأ كتابات أخرى.. أم تريد أن تقدم نفسك “داعية”.. إذن فأنت ذاك منذ الآن.. وهذه “إجازة” مني بذلك..!!!
آسف يا بني.. لا بد أن أكون معك صريحا.. فأعذرني إن “قسوت”.. ولا أزال في انتظار.. الورقة الثالثة).
.مع مودتي
على فهمي خشيم
طرابلس في: 1987.02.03
وعلى عجل شرعت في إعداد الوقت الثالثة من البحث.. لكنني للأسف الشديد لم أتمكن من استكمالها.. فقد دعيت فجأة – كما أخبرتكم في الجزء السابق – من قبل قسم الدراسات العليا.. لأمر هام.. غادرت على أثره الجامعة مكرها.. ولم أعد بعد ذلك إليها.. ولم أتمكن من مقابلة الدكتور خشيم مرة أخرى.. فقد انتقل إلى الرفيق الأعلى.. توفي وهو (في انتظار.. الورقة الثالثة).. سمعت خبر وفاته – يرحمه الله برحمته الواسعة – وأنا بمقر عملي بشركة رأس لا نوف.. فتأسفت لوفاته كثيراً.. ودعوت له بظهر الغيب.
رحل الدكتور خشيم عن دنيانا إلى الرفيق الأعلى.. وبقيت في صحراء رأس لا نوف.. أردد بأسف شديد قول الشاعر لبيد بن ربيعة : (ذهبَ الذينَ يُعاشُ في أكنافِهِمْ … وبقيتُ في خَلَفٍ كجلدِ الأجرَبِ).
ـــ إنتهت حكايتي مع الدكتور خشيم.. على الصعيد الدراسي.. واستمرت بعد ذلك على الصعيد الثقافي.
في الجزئين القادمين بإذن الله تعالى.. تطالعون بقية حكايتي معه
يرحمه الله برحمته التي وسعت كل شيء.