خَيريّة عبدالسلام
لماذا تحولت لغة الرواية العربية المعاصرة من لغة واقعية تلامس الحياة إلىٰ لغة شعرية تخاطب المشاعر والأحاسيس؟ نقول بأنّ اللغة في الرواية عادة تكون بسيطة؛ لأنها موجهة إلىٰ مختلف شرائح المجتمع، وهي تعبر عن فئات اجتماعية متنوعة، إلا أن الروائي أصبـح يرتقي بلغته فـي سرده الروائي لتتحول الرواية إلـى رواية شعرية، فقد اقترن ظهور اللغة الشعرية في الرواية العربية مع ظهور الرواية الحديثة التي جعلت من هذه اللغة العلامة البارزة في تحول اللغة من واقعية تلامس الحياة إلىٰ لغة شعرية تهدف إلىٰ التأثير في القارئ من خلال سحرها وجمالها وابتعادها عن المألوف والمعتاد.
وكـذلك تعتبر لغـة الرواية سببًا رئيسـيًًا فـي جـذب القراء ولفت انتباههم، واتخاذهـا المحور الأساسي للبحوث والدراسات الأدبية فنجد عددًا كبيرًا من الروايات جاءت بلغة سطحية لم تلامس مشاعر وأحاسيس القارئ فأصابه نوع من الرتابة والسأم والملل أثناء قراءاته السرد الحكائي، في حين نجد نصوصًا سردية طبعت بلغة خيالية عميقة وجذابة تتميز بروح تملؤها الشفافية ودقة عالية في الأداء. وكذلك تزخر بصور خيالية غاية في الروعة والإبداع؛ لكي تحقق وظيفتها التأثيرية لدى القارئ أولًا، وتحتل لنفسها مكانًا يضمن وجودها في لائحة الأعمال الخالدة ثانيًا. ونجد عددًا غير قليل من الروائيين اتخذوا من اللغة الشعرية سبيلًا لسرد نصوصهم النثرية، لما لها من أهمية في تبليغ العمـل الأدبي للمتلقي، وكذلك تحقق التوازن فـي النص بيـن إيصـال الرسالـة للقـراء وبيـن تحقيق المتعـة والجمال في العمل الأدبي، باعتبار أن تحقيق المتعة للمتلقي هـي الغاية الأساسية للأدب فعمـدوا إلى الانزياح عن قواعد اللغة المعروفة للنثر وأخـدوا يستمدون من لغة الشعر وأسلوبه وصـوره أروع القصص والروايات، فنجدهم أحيانًا قد توسعوا في الوصف باستخدام التشبيه والاستعارة والمجاز، ونجدهم تارة أخرى اعتمدوا علىٰ معجم لغوي خاص بهم وظفوا فيه تقنيات الشعر وجمالياته مثل ظاهرة التناوب اللغوي وآليات التشكيل اللغوي وما فيها من اشتقاقات ونحت ودمج، ومفارقات لغوية.
ولـم يقف الأمر عـنـد هـذا الحد فحسب بل تعدّاه إلى أهـم ميزة من مميزات الشعر، ألا وهي: الموسيقى، فنجد في عـدد كبير مـن الروايـات المعاصرة أنها تتسـم بحـس موسيقـي يجعـل المتلـقي أكـثر تفاعـلًا واندمـاجًا مـع المتن الحكائي؛ لمـا فـي الإيقاع من مكانة مميزة في الأجناس الأدبيـة بنوعيها المنظوم والمنثور، فنجـد للأصوات إيقاعًا وللأفكار إيقاعًا، وحتى البياض صار له إيقاع فهذه العناصر مـن أهم الجوانب التي تعتمد عليها الرواية العربية المعاصرة.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل كل هذه العناصر السابقة تفسد لغة النثر وتؤثر في سرد النص أو حواره؟ يتفق أغلب النقاد والأدباء أن لغة النثر لا بد أن تبتعد عن الجمود والسطحية، وأن تنزاح عن لغة الخطاب السردي العادي وتعتمد على توظيف الأخيلة والصور والإيقاع لكي تلاحق الروايات العالمية وتثبت لنفسها الخلود والبقاء بشرط ألّا تنحرف عـن الأسس والمبادئ الأساسيـة للغة.
ولكـن أين يجـد نفسـه القـارئ فـي تنـوع لغـات النثـر مـن لغـة واقعيـة سطحيـة ومـن لغـة خياليـة وشعـرية؟ الحقيقة أن هذا السؤال يعتمد بدرجة أولى على تنوع المتلقي، فنجد القـراء ذوي التعليـم المتوسط يميلون للغة الخطاب العادي البعـيدة عـن الإيحاء والمفارقات والتشبيهات؛ لأن الهدف الأساسي لهم معرفة ما آلت إليـه الأحداث بعيدًا عن التوسع في الوصف والإطالة في السرد، ونجد على العكس تمامًا القراء ذوي الكفاءة التعليميـة العاليـة وخاصة المتخصصون فـي النقـد الأدبـي ينجذبـون إلى الروايات التـي تتسـم بطابع اللغة الشعرية وتتميز بانفتاح النص على عـدد كبير مـن الدلالات والمضامين.
وعليـه جاءت اللغـة النثـرية فـي الآونة الأخيرة تشـع بالمشاعـر والأحاسيس، تتجلى فيها الشعرية بكافة مقوماتها من جزالة في الألفاظ والتراكيب، واعتمادها على الانزياح بصورة كبيرة، وتستمد من الموسيقى ما يحقق لها الوظيفة الجمالية والتأثيرية لتخرج النص من مجاله النفعي إلى مسار جمالي وشعري.