المقالة

عن الشعر والفلسفة

سلسلة: الصورة والخيال

سعود سالم

1- عن الشعر والفلسفة

من أعمال التشكيلي محمد الخروبي.
من أعمال التشكيلي محمد الخروبي.

“لا تثق بالقصيدة، بنت الغياب، فلا هي حدس، ولا هي فكر، ولكنها حاسة الهاوية..” هكذا يتوجه محمود درويش إلى القارئ في قصيدة بعنوان “رسالة إلى ملك الإحتضار”. حيث تبدو القصيدة كأنها تمثل إستمرارية جسد الشاعر ذاته كجلده ويديه وعينه وحواسه.. أو وسيلته المباشرة لتحسس العالم والأنغماس في حرارة الأشياء وبرودتها الثلجية. تبدو القصيدة كوسيلة أو أداة حسية جديدة لوعي العالم والتواصل مع الأشياء والتغلغل في كينونتها المادية. وهو ينفي أن تكون القصيدة حدسا أو فكرا، أي أن تكون وسيلة لمعرفة عقلية تجريدية أو عملية تخضع لقوانين النفي والإثبات. إنها حاسة الهاوية، أداة معرفية لقياس السقوط والهزيمة وزمنية الموت والإحتضار. القصيدة تبدو كمنبع لمعرفة وجدانية ذاتية، أو كترمومتر إنفعالي لقياس الشعور والأحاسيس والعواطف. ولهذا السبب ذاته يطلب الشاعر من القارئ ألا يثق في هذا المقياس الذاتي، لأن القصيدة مثل أي عمل فني آخر، لايمثل إلا بقايا تجربة وجدانية حسية وجمالية للمبدع ذاته، والقارئ لا يستطيع أن يعيش هذه التجربة مباشرة، وإنما يستطيع أن يعيشها بواسطة “الخيال”، أي بواسطة الصورة التي يضعها الشاعر أوالمبدع أمام عينيه. وهي في العادة صورة ورقية جافة يابسة، وأحيانا مجرد جثة إنفعال، أو شذرات يائسة من تجربة الشاعر. غيرأن محمود درويش في هذه القصيدة يبدو كأنه يلبس ثوب المفكر، ويستعير لسان الفيلسوف، ليدلي للقارئ بـ “فكرة” أولية مفادها أن لا نثق بالشعر، وذلك في قصيدة شعرية بعنوان “رسالة إلى ملك الإحتضار”. وعلى القارئ أن يجد طريقه لوحده في هذا التركيب المتناقض .. على القارئ أن يفرز وينقي ويختار الصورة التي تناسبه وسط هذا المتحف المليء بالصور المسمى بالقصيدة، والذي يعتبره الشاعر كوعاء معرفي عام قادر على نفي ذاته كشعر، ليولد في صورة فلسفية أو أخلاقية أو سياسية. وهو في نهاية الأمر إستمرارية للشعر العربي الفلسفي، أي التراث الذي يحتوي الفلسفة كلحظات أو محطات داخل القصيدة أو المقاطع الشعرية، حيث الحسية الشعرية تتجاوز ذاتها في بعض المواقف الإشراقية، للوصول إلى تجريدات فكرية عامة، لتعبر عن فكر محاصر وغير قادر على إفراز نظرية فلسفية شاملة لفهم الإنسان والعالم والكينونة والوجود والزمان والمكان والعلاقات العديدة المعقدة التي تربط الكل بالكل، رغم وجود بعض المحاولات في التجربة الشعرية العربية للجوء، بالإضافة إلى القصيدة كتركيب فني، إلى التعبير عن مواقف فكرية ونظرية في لغة تقع خارج حدود الشعر، كما هو الحال مع أدونيس في كتابه “التجربة الشعرية العربية”. حيث يؤكد على العكس تماما من درويش، بأن القصيدة هي منبع الفكر وأساس البنية اللغوية القادرة على فهم الإنسان والعالم. وذلك في مقابل اللغة الدينية والفلسفية مصدر اليقين والإعتقاد والمذاهب. حيث يرى أن العالم في أفق المعرفة الشعرية، أي المجازية، يكون على العكس “منفتحا بلا نهاية، لأنه إحتمال واكتشاف دائمين”. ونحن نعرف بأن هذه المقولة ربما تبدو صحيحة على المستوى الذاتي الفردي. غير أن أدونيس يذهب إلى أبعد من ذلك، حيث يشن بطريقة غير مباشرة حربا على الفلسفة والفكر الفلسفي عموما، مؤكدا بأن الشعر هو المفتاح الوحيد القادر على فتح أبواب المعرفة الموصدة منذ القدم، باعتباره “اللغة” كوعاء وحيد يحتوي كل الأدوات المعرفية من الدين والفلسفة والشعر وبقية العلوم النظرية والتطبيقية. غيرأن ما يسميه بـ “المجاز” كخاصية متأصلة في التاريخ والتراث اللغوي العربي تشكل، في رأيه، حدا فاصلا واشارة إلى التصادم والمفارقة الحادة بين الفكر الديني والفلسفي من جانب، وبين الشعر في الجانب الآخر. ذلك أن المجاز حسب النظرية الدينية لا يعبر إلا على “المحتمل”، حيث هناك إحالة للألفاظ عن معانيها المعهودة، وتحريف للكلمات عن مواضعها، مما يفسد المعاني وبالتالي يفسد اللغة ويولد الضلال والباطل. لذلك تجب العودة إلى أصول الكلمات وتحميل الألفاظ المعاني الموضوعة لها في الأصل، وضرورة الرجوع إلى اللغة الواقعية، لغة النثر. وأدونيس يدين هذا المنظور الديني ويؤكد على العكس من ذلك بأن اللغة خاصية ينصهر فيها الفكر والشعر “بحيث يبدو الفكر أنه يتصاعد من الشعر، كما تتصاعد من الوردة رائحتها”. وتتمثل هذه الخاصية بطبيعة الحال في “البنية المجازية للتعبير”. ولا شك أن هذا “المنظور المثالي” لايبطل المجاز وحده، وإنما يبطل اللغة الشعرية ذاتها كمقياس إنفعالي حسب ما يراه محمود درويش.. أي حاسة الهاوية، الشعر كتجربة وجودية مباشرة وأصلية وأساسية وغير قابلة للخضوع للقوانين العقلية أو المنطقية مثل النفي والإثبات، الحقيقة والباطل، الوجود أو اللاوجود، الإحتمالي والضروري، إلى آخر هذه التصنيفات المنطقية، لأن العالم الشعري هو أساسا الخيال وليس عالم الإدراك. وهذا لا يعني أن الشعر ليس أداة معرفية، غير أنه من الواضح أنه ليس أداة معرفية موضوعية كما سبق القول. فاستعمال البنية الواقعية أو المجازية أو أية بنية أخرى لغوية في التعبير ليس كافيا وحده لرسم الحدود الفاصلة بين التجربة الشعرية والمعرفة الفكرية أو الفلسفية ـ وهذا في حقيقة الأمر موضوع آخر يحتاج بدوره إلى المزيد من البحث والدراسة والتحليل ـ إذ أن الذي يهمنا في هذا المجال هو الطريقة التي استعملها أدونيس في تصنيف هذه الحقول المختلفة، والمنهج الذي استعمله ومكنه من وضع الدين والفلسفة في ملف واحد، مقابل ملف آخر يضع فيه الشعر، أو ما يسميه بالمعرفة الشعرية كنقيض إيجابي.. وهذا التصنيف في حد ذاته يعتبر في نظرنا ممثلا لأحدى المشاكل العميقة والأساسية التي يعاني منها الفكر المعاصر عموما، والفكر العربي بصفة أكثر حدة، أي الخلط بين المنهج الديني الغيبي والمنهج العقلي. وهو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعتنا منذ البداية إلى هذه المحاولات اليائسة لفك الحصار، ذلك أن اعتبار المنهج الديني كمنهج فكري، وإلصاقه أو وضعه في نفس الخانة مع الفلسفة هو خطأ جوهري لا يمكن ارتكابه إلا في حالة واحدة، حالة وجود خلل ابستمولوجي في المنهج الذي أدى إلى هذه النتيجة. وهذا الخلل ربما يرجع إلى عدم التفرقة بين الحالات المختلفة للوعي الإنساني، الحسي والفكري والمتخيل. وبالذات إلى عدم التمييز بين الشيء وبين صورة هذا الشيء، بين الشيء في ذاته وبين الصور المختلفة لظهور هذا الشيء، حسب الوعي الخاص لكل حالة. إن هذا التشويش المنهجي، وهذا التناقض بين مقولة “القصيدة ليست حدسا وليست فكرا”، وبين “الفكر يتصاعد من الشعر..”، والذي يمثل هذا المأزق الذي يتواجد فيه الفكر المعاصر، ربما يعود بالدرجة الأولى إلى أهمية “الكلمة” في التركيب الثقافي العربي. وإلى أهمية اللغة الشعرية الخيالية في جميع جوانب الحياة العربية، من “افتح يا سمسم”، إلى “إن شاء الله”.

#الصورة_والخيال

مقالات ذات علاقة

غابت سنة أخرى

عمر أبوالقاسم الككلي

زر يمسح كل مشاعري

سكينة بن عامر

ميراثنا المسروق!

المشرف العام

اترك تعليق